قالت جدتي:
جدتي كانت من النوع التي تحب الصمت، وان تحدثت تتحدث باختصار شديد،بعكس ما عهدناه من العجائز اللاتي يحبن الثرثرة ،واحيانا يخرج حديثهن الى حافة الهذيان،لذا كنت احب وانا مازلت في العاشرة من عمري ان اجالسها ،بل حتى كنت ابات في غرفتها،وذات يوم شتائي ممطر بارد،ونحن جالسون حول مدفأة خشبية،حيث الحرارة التي تنعبث منها تتسرب من خلال مسامات جلدنا الى داخلنا فتزرع فيها نوعا من السكينة هي اقرب ما تكون الى التخدير،حيث ما يلبث المرء بعدها يشعر بالنعاس،اخذت تحدثنا عن حادثة قديمة ، قد جرت في احدى القرى القريبة لقريتهم قبل ان يغادرنها الى مدينة حديثة التكوين.
اخذت نفسا عميقا واطلقت تنهيدة تعبر بوضوح عن مدى صعوبة استحضار الزمن الفاني وقالت: ان احد الاغاوات الذين كانوا يسيطرون على القرية تلك قد اصدر اوامره بمنع اي نشاط ،او عمل، يقوم به احد افراد قريته دون علمه،وليتأكد من ان احدا لن يخالف امره هذا امرهم بالمكوث في بيوتهم بعد عودتهم من حقولهم ومزارعهم، والخروج للحقول والمزراع فيها حكمة بالطبع وهي ليست بخافية عنكم، الا وهي ان ثلاثة ارباع المحاصيل تذهب لمخازنه،والربع الباقي هي قوت اهالي القرية من بدء موسم الحصاد الى الموسم القادم، ومن اجل ان يبرهن لهم بانه يريد مصلحتهم باصدار قراره هذا سمح لهم بالخروج ليلة واحدة في الاسبوع..هنا صمتت جدتي لبرهة وكأنها تحاول العودة بذاكرتها للوراء البعيد القريب لتعرف اي ايام الاسبوع كانت لكنها لم تنجح، عادت تقول وقد اخذ النعاس يظهر على ملامح اخوتي، كان الناس في تلك الليلة يجتمعون في ساحة معدة للاحتفالات قبل مجيئ الاغا بهروز، حيث كان الاهالي يقيمون حفلات الاعراس والعزائم والولائم فيها،لكنها بعد مجيئ الاغا اصبحت لاتشاهد الا القليل من هذه المناسبات.
مضت الايام واهل القرية على هذا الحال حتى تعودوا على ذلك،ولعل في التعويد حكمة هنا،لان المرء عندما يتعود شيئا يصعب عليه تركه الا بعد جهد وبذل وصراع مرير حتى وان كان هذا الشيء ليس الا دمار وموت له.
كانت المحاصيل تزداد جنيا من موسم لاخر،ومخازن الاغا هي بذلك سعيدة لانها تنتعش بمواردها التي لاتنتهي، حتى اتى يوم وفاضت ولم تعد تستوعب المزيد، ولطباعه الغريبة وانطوائيته وكثرة شكه في كل من حوله، لم يفكر يوما بان يتجار بموارده التي قد تجني عليه ارباحا مضاعفة خاصة وان الاغاوات في القرى الاخرى كانوا يتلهفون لذلك،أتاه امين مخازنه يبشره بخبر مفاده ان المخازن لم تعد تستوعب، فرح وحزن في نفس اللحظة، لانه كعادة كل من يحكم يكون عاجزا امام شهوة المال،تاه ولم يعرف ما يفعله،حتى اشار عليه امين مخزنه ان يستدعي الحاشية ليتشاوروا في امر ملئ المخازن، وعدم وجود بديل لها، فاجتمعوا وخرجوا بعد مداولات ومناقشسات عديدة، بان يطلق الاغا العنان لاهل القرية ويعفيهم من دفع بعض ما كان يترتب عليهم من قبل، وبعد تفكير عسير وافق الاغا، اوعز لرجاله بان يعلنوا في القرية النبأ السار،نبأ الحرية التي نالوها بعد ان بذلوا في سبيلها ايام عمرهم،تعالت الاصوات معلنة ميلاد يوم التحرر.
مابالهم اهالي القرية لايبالي احدهم بهذا النبأ، هكذا قالت جدتي العبارة وكأنها تعيش الحدث..ثم اردفت تقول لم يجتمع احد من اهالي القرية حول رسول الاغا ، ردد الرسول لاباس انهم في الحقول والنساء تعودن المكوث في البيوت ان لم يرافقن رجالهن الى الحقول،عاد الرسول الى الاغا وابلغه ما كان معه، خاف الاغا من ان تكون هناك مؤامرة تحاك ضده، دعا الحاشية بسرعة، فاشاروا عليه ان يعلن عليهم الامر في ليلتهم التي يجتمعون فيها في تلك الساحة، وبدأ الرسول يهيأ نفسه لتلك الليلة حتى تسنى له ذلك، فحضر مع رجال مدججين بالسلاح الى الساحة، تعكر وجوه الناس ، لكهنم يعلمون من هو لذا اضطروا الى الوقوف والترحيب به، وبدأ الرسول يعلن عليهم النبأ العظيم،صمت اهالي القرية وكأن على رأسهم الطير، وبعدما انهى الرسول خطابه المعد، قال اذهبوا انتم الطلقاء،ظن بان اهالي القرية من الفرح يتطايرون ويحتفلون، لكن الرسول اصطدم بان اهالي القرية بعدما سمعوا القرار عادوا الى احاديثهم العادية وتسامرهم العادي وكأن الامر لايعنيهم،فزع الرسول وعاد يجر حصانه وخيبته، وبسرعة لامتناهية كان واقفا بين يدي الاغا، وتعلمون بان الاغا لايعرف ماذا يفعل لذا امر بحضور الحاشية فورا..اجتمعت واختلفت الحاشية فيما بينها، قال احدهم: بان اهالي القرية تعودوا حياتهم هذه لذا لم يعد يهمهم سوى انقضاء ايامهم، ورأى اخر بان الاغا حنون في طباعه لانه سمح لهم بالخروج ليلة في الاسبوع فتمردوا عليه، ورأى اخر بان اهالي القرية يضمرون حقدا للاغا لذا لايبالون بهباته العظيمة.
وبعد المداولة خرج الحاضرون بأمر مفاده منع خروج اهالي القرية في ليلتهم تلك ، وانتظروا مجيئ تلك الليلة من الاسبوع القادم لاعلان القرار الجديد.
نظرت جدتي الينا واذا بها تراني وحدي اسمتع لها والباقون قد غلبهم النعاس وناموا، ضمت رأسي لصدرها وهمست الا تنام ابدا ايها الشقي، ابتسمت اكملي جدتي اكملي ماذا حدث بعد ذلك، وضعت رأسي على فخذها وكانت تمرر اصابعها التي هرمها الزمن بين خصلات شعري، وقالت اتت الليلة تلك وخرج الرسول مع مسلحين الى الساحة وابلغوهم اوامر الاغا فانصاعوا اليها.
نام الان بني تأخر الوقت قالت لي جدتي، لكني قلت انتظري ماذا حدث بعدها...قالت لاشيء ...ومشكلة الفائض ، قالت امر الاغا ببيع محاصليه الى حاشيته .
صمتت جدتي من جديد..الا تكملين...قالت هذه هي النهاية...قلت لكنها ناقصة..هناك شيء ناقص في الامر، لانه كان يجب ان يحدث شيء لااعرفه لكن...وضعت يدها على فمي، وقالت كفاك مشاغبة ومشاكسة نام الان..انا سمعتها هكذا..!
رضخت لامرها...ونمت على فخذها ولااعلم كيف وضعتني بعدها على فراشي.. وعندما استيقظت كانت هي تعاتب اخوتي على تفريطهم بالقصة.
14-1-2007