هذه المقالة الثالثة لاستاذنا الدكتور الجوادي في واحتنا الغناء
القضية الفلسطينية وتزييف الشعارات
د.موفق سالم نوري.
ها هي دورة الزمن تحث الخطى نحو اللحاق بالعام الستين على كارثة المسلمين في فلسطين، حينما أعلن اليهود في عام 1948م، إقامة دولتهم على تلك الأرض المقدسة الطاهرة، ذلك الإعلان الذي تزامن مع إخفاق (العرب) في الإمساك بزمام الأمور للحيلولة دون اغتصاب هذا الجزء العزيز من بلاد المسلمين.
ولكن ليس بعيداً عن ذلك الزمن ثمة كارثة كانت أعظم وأشد فتكاً بحياة الأمة الإسلامية مهدت لتلك الكارثة ـ اغتصاب فلسطين ـ بنحو ربع قرن من الزمن، أعني بذلك إلغاء الخلافة الإسلامية في دولتها العثمانية، ذلك الإلغاء الذي عنى إقصاء الإسلام إقصاءً خطيراً عن دوره السياسي في حياة الأمة، وإحالة الأمر إلى ما أسفر عنه من قيام الأنظمة العلمانية التي فرضتها الحقبة الاستعمارية الأوربية.
وفي غمرة التداعيات التأريخية الخطيرة لم يفطن الكثيرون إلى تلك العلاقة السببية
ـ تأريخياً وعَقَدياً ـ بين الحدثين، اغتصاب فلسطين وإلغاء الخلافة العثمانية، وفي إطار هذا الفصل بين الحدثين راحت تتولد المفاهيم والأفكار بشأن الموقف من القضية الفلسطينية وسبل معالجة الأوضاع التي آلت إليها الأحداث، ثم لينعكس ذلك كله على مجمل مواقف الأمة الإسلامية من قضاياها المصيرية الحاسمة.
فقد أعقب كارثة المسلمين في فلسطين قيام موجة من حركات (الاستقلال)، التي أفضت إلى قيام (النظم الوطنية) و(القومية) و(اليسارية) في العديد من الأقطار العربية، بوصف أن ذلك جاء جزءاً من عملية الرد على كارثة فلسطين، ولاسيما الإخفاقات الشديدة التي وقعت فيها الأنظمة العربية القائمة، التي كانت جزءاً في الأصل من العملية الاستعمارية الغربية، فقد شهد القرن الماضي العديد من (الثورات) التي أفرخت أنظمة (الرد) على الكارثة، فكيف تعاملت هذه النظم (الوطنية اليسارية) مع قضية فلسطين؟ وماذا صنعت بشأنها؟
عند مراجعة حصاد تلك الأنظمة لا نجد سوى هزائم أخرى رسخت معطيات الهزيمة في النفوس، حتى أصيبت الأمة بدرجة شديدة من الانكسار والإحباط.
وتجسد ذلك في هزيمة الأنظمة في عام1967، ثم عام1973، ثم اجتياح جيش الكيان الصهيوني للبنان، الاجتياح الذي قاد الجنود اليهود إلى أول عاصمة عربية هي بيروت واحتلال اليهود لجنوب لبنان، ولا أريد الخوض في جدل حول ما حصل في عام1973، فتلك الحرب لم تكن سوى شكل من أشكال الهزيمة أيضاً.
دعك عن المظاهر والأشكال التي اتخذتها الأحداث في حينه، فالأمر لم يعدُ ممارسة لعبة قذرة أخرى كرّست الوجود اليهودي في فلسطين، إذ توثق ذلك بموجب اتفاقيات ثنائية للسلام تبادل فيها المعنيون الاعتراف بالوجود الشرعي والقانوني، وإنهاء (حالة الحرب) بين الأطراف ذات الصلة، واستمرت مثل هذه التداعيات تتفاعل حتى قادت إلى ما قادت إليه في (أوسلو) ولا تزال بقية الأنظمة العربية تتطلع إلى اليوم الموعود الذي تنجح فيه في عقد مثل تلك الاتفاقيات الثنائية مع دولة اليهود.
والغريب أن الأنظمة (اليسارية) هي نفسها التي انزلقت إلى هذا المنحدر الخطير في التفريط بالحق الشرعي للأمة الإسلامية في فلسطين، الأمر الذي يجدد التساؤل أيضاً عن حصيلة ما قدمته القوى السياسية التي كانت فاعلة في الساحة في حينها؟ أحزاباً أو اتجاهات اتخذت شكل القوى اليسارية التقدمية.
ففضلاً عن الهزائم السياسية والعسكرية المتلاحقة، وما ترتب على ذلك من نكوص شامل في حياة الأمة، فإن ثمة إخفاقات بل هزائم فكرية متلاحقة أربكت مسيرة عمل الأمة الإسلامية، ولم تكن أقل خطراً من الهزائم السياسية والعسكرية، بل إنها أسهمت في تكريسها، ومن أمثلة هذه الهزائم الفكرية مجموعة من الشعارات المنحرفة التي أخرت العمل (العربي) على صعيد القضية الفلسطينية، ومنها:
1. الشعارات التي قدمت القضية الفلسطينية على أنها القضية الأولى في حياة الأمة، وأنها القضية الرئيسة والمحورية في أولويات عمل الأمة وأنظمتها الحاكمة، حتى بات هذا التصور راسخاً في نفوس أفراد الأمة من دون استثناء بما في ذلك القوى السياسية الإسلامية.
وأقول ابتداءً: إن الاعتراض على مثل هذه الشعارات والتصورات قد يبدو مؤلماً وجارحاً للمشاعر (الوطنية والقومية) حتى يبدو الأمر وكأنه اقتحام لنسيج من الأسلاك الشائكة التي حيكت حول هذه الشعارات، بل ربما ظهر المعترض على هذه الشعارات ـ أي كون فلسطين قضية العرب الأولى ـ وكأنه خائن لهذه القضية، فما هو وجه الاعتراض على مثل هذا الشعار؟ هنا لابد من التنبيه على أن من رفع هذه الشعارات هي مجموعة من القوى والأنظمة (العلمانية) ومثل هذه القوى والنظم فاقدة للمشروعية في ادعائها أنها تمثل مصالح الأمة أو مستقبلها، لأنها لا تنطلق من المعايير الشرعية الإسلامية في التعامل مع واقع الأمة وحقيقة ما تمر به من ظروف تأريخية وحضارية، بل إن نسيجها الفكري تكون عبر تفاعلات فكرية هي مزيج ما بين الحداثة الغربية ومفرزات واقع منحرف بعيدا عن المناخات الشرعية السليمة، إلى الحد الذي وقعت فيه ـ عن قصد أو بغيره ـ في شَرَك المخطط الاستعماري لإبعاد الأمة عن مساراتها الصحيحة لاستئناف حياتها الإسلامية.
عليه فإن الشعارات التي جعلت من القضية الفلسطينية القضية رقم واحد في تفكير الأمة وفعلها إنما كان الغرض منه إقصاء ما ينبغي أن يحتل المرتبة الأولى في التفكير والفعل حقيقة، أعني العمل الجاد من أجل إقامة نظام الإسلام في حياة الأمة، من خلال إقامة دولة الإسلام التي تحكم بموجب الكتاب والسنة، وليس بموجب النظم والقوانين الوضعية التي يغلب عليها أنها غربية المنشأ، فهذه الشعارات وأمثالها أظهرت هذه الأنظمة العلمانية وكأنها المدافعة فعلاً عن حقوق الأمة في فلسطين، وأنها الساعية حثيثاً على هذا الطريق، وهي ليست كذلك في حقيقتها، فهي لم تحصد سوى الهزائم المتلاحقة، ولم تكن هذه الهزائم سوى ثمرة لحقيقة السياسات المنحرفة لهذه الأنظمة، التي لم تفعل جدياً ما يضعها على الطريق الصحيح لاسترداد فلسطين.
لقد كانت مثل هذه الشعارات البضاعة التي روجتها الأنظمة (الوطنية والقومية واليسارية) لتكتسي بحلة الشرعية في نظر جماهيرها، ولتكون في الوقت نفسه القيود والأغلال التي حالت دون سعي الجماهير نحو أهدافها الحقيقية بدعوى أن طبيعة (الصراع) مع الكيان الصهيوني مهد على الدوام لـ(حالة الطوارئ)، التي ما انفكت الأمة رازحة تحتها أو تحت مثيلاتها.
وفضلاً عن ذلك فإن هذه الأنظمة والقوى اتخذت من قضية فلسطين علامة تجارية (مسجلة) وراحت تراهن جماهيرها على شعارات براقة زائفة، فهل أن هذه القوى قادرة حقاً على أن تعيد للمسلمين فلسطينهم؟.
إن الواقع التأريخي يفند ذلك، فهذا الواقع التاريخي يؤكد أن الصفة (الإسلامية) للأمة ولنظامها السياسي وحدها هي التي تكفلت بحفظ حق المسلمين في هذه البقعة، ولا أدل على ذلك من نجاح (المسلمين) أيام دولتهم الأولى في فتح فلسطين واستعادة القدس التي أبت أبوابها أن تنفتح إلا بيد الخليفة عمر بن الخطاب (رضوان الله عليه) ولما احتلها الصليبيون فإنها لم تعد إلى وضعها إلا بجهود (إسلامية) قادها صلاح الدين الأيوبي (رحمه الله) الذي أعمل جهده العملي والفكري من أجل تهيأة الأجواء الإسلامية التي نجحت في الوصول إلى ما ينبغي الوصول إليه.
وفي مرة ثالثة فإن الصفة الإسلامية للدولة العثمانية هي التي حظفت فلسطين من أن تباع لليهود لما حاولوا ذلك مع السلطان عبد الحميد الثاني (رحمه الله) الأمر الذي أكد على الدوام أن هوية فلسطين لا يمكن الحفاظ عليها إلا في إطار المفاهيم الإسلامية والحياة الإسلامية، وما سوى ذلك إنما هو متاجرة بهذه القضية ليس إلا.
ومن أفق هذه التصورات يتبين لنا أن التأكيد على أن فلسطين هي قضية الأمة الأولى، لا يعني في حقيقته سوى تكريس استلاب هذه الأرض المقدسة والطاهرة، لأن هذا الشعار يقصي عن الذهن التوجهات الحقيقية التي هي وحدها القادرة على استعادة فلسطين، واريد بذلك إقامة نظام الإسلام في حياة الأمة وعلى الصعد كافة، عليه فإن قضية الأمة الأولى هي السعي الجاد صادقاً من أجل إقامة دولة الإسلام في حياة الأمة، وان يكون ذلك الشغل الرئيس للأمة، على أن ذلك لا ينفي أية جهود تعمل على مجاهدة اليهود ودولتهم المزعومة...
2. ومن الشعارات الأخرى التي كان لها راوجاً عملت من اجله معظم القوى والأنظمة السياسية،أن فلسطين هي قضية العرب القومية، وقد ركزت القوى (القومية) كثيراً على هذه المسألة وراحت تصور ان قضية فلسطين هي قضية العرب وحدهم، انطلاقاً من الأفق القومي المحدود لهذه القوى من أجل تجريد هذه القضية من عمقها الإسلامي الحقيقي الفاعل، الذي يمكن أن يشكل عمقاً استراتيجياً يحقق لهذه القضية من الدعم والإسناد ما يكون ضرورياً ولازماً لإنقاذ الأرض المقدسة من دنس اليهود.
فلقد كان حرياً التأكيد على أن القضية إنما هي قضية المسلمين جميعاً وليس قضية العرب وحدهم، ولاسيما أننا نجد التجاوب الحقيقي يغمر الشعوب المسلمة أزاء مأساة فلسطين من أقصى الأرض إلى أقصاها، وبالتالي فإنه لو وضعت فلسطين في السياق الإسلامي الصميم لها لأمكن صناعة آليات وهيكليات للعمل تشكل عنصر ضغط وتأثير مناسب في رسم مسارات هذه القضية، ولاسيما ونحن نجد أن اليهود يحصلون على دعم دولي كبير مكنهم من تحقيق مكاسب خطيرة على مستوى ادعاءاتهم، الأمر الذي يقتضي السعي من أجل الحصول على دعم وإسناد ينبغي أن لا يقل فاعلية عما يحصل عليه هؤلاء اليهود حتى وإن كان على صعد معينة.
إن المواجهة في هذه القضية لم تعد مع اليهود وحدهم، بل إنها دخلت في مواجهة الإسناد الغربي الواسع لليهود، ومواجهة من هذا النوع تتطلب أسلمة هذه القضية بجعلها قضية الأمة الإسلامية، غير أن فاقد الشيء لا يعطيه، فالأنظمة والقوى التي كانت فاعلة في الساحة لم تكن تملك العمق الإسلامي الحقيقي في داخلها، بتبنيها للعلمانية، لذا فهي لم تكن تحسن الخطاب الإسلامي، بل قل: إنها لم تكن ترغب فيه أصلاً، لا بل إنه الصِدام قام بأشكال عديدة بين القوى العلمانية والإسلامية، وهو ما رسخ التوجهات العلمانية والقومية لدى تلك الأنظمة والقوى فراحت تُسقط ذلك على طبيعة تعاطيها مع قضية فلسطين.
إن السياق التأريخي الصحيح لهذه القضية هو أن تكون قضية المسلمين كلهم، ولا يتحقق هذا عبر شعارات منافقة، بل عبر آليات إسلامية حقيقية وشرعية يجري تبنيها عن جد، وبحزم في التعاطي مع هذه المسألة، ولا يتأتى ذلك إلا عبر التوجهات الفاعلة لاستئناف الحياة الإسلامية.
3. ومن أخطر المفاهيم التي لحقت بالقضية الفلسطينية وجردتها من آليات العمل الصحيحة والمناسبة، وصف هذه القضية بـ(الصراع العربي الإسرائيلي) فبهذه الصياغة جردت القضية من بعدها الجهادي الشرعي، وهذا التجريد جاء بشعبتين، تمثلت الأولى في حصر المواجهة مع اليهود بالآليات والسياقات الرسمية أو الشبه رسمية وحدها، وهو ما جرد القضية من عناصر ضغط ومواجهة حساسة وفاعلة، كما ان ذلك جرد القضية من دلالاتها الشرعية، فالصراع غير الجهاد؛ إذ أن الصراع لا يحمل أية دلالات (دينية – شرعية) وهو ما لم يغفل اليهود عنه أنفسهم فراحوا يمنحون دعواهم بعداً دينياً يوظف كل قدراتهم من أجل حق مزعوم، فعندما يكون الأمر (صراعاً) فإن (النيات) و(الأهداف) و(الآليات) يتم صياغتها بعيدا عن المفاهيم الدينية الشرعية، في حين نجد أن حمل القضية والتعاطي معها على أساس كونها قضية (دينية) يعني نقل الأمر من مجرد كونه صراع إلى كونه قضية (جهاد) بكل ما يتطلبه ذلك من إعادة صياغة للنيات والأهداف والآليات، وهذه ليست مسائل وجدانية وحسب، بل إن ذلك يختلف في طبيعة العمل نفسه، وفي طريقة فهمه، إذ لا يعود الأمر إلى كونه (تحرير الأرض) ولا إقامة (دولة فلسطينية) بل إنه يغدو عمل (في سبيل الله) يستند إلى (الإخلاص) بمعناه الشرعي، وهنا يتحول الفعل إلى نصرة لدين الله تعالى، وعند هذه النقطة فقط يستحق الأمر النصر من عند الله تعالى؛ لقوله وهو أصدق القائلين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، (سورة محمد،الآية7).
إن العمل على وفق هذه الأسس والتصورات يعني وضع الخطى على الطريق الصحيح، وهو وإن كانت نتائجه ليست قريبة المنال، بيد أنها ليست مستحيلة على وفق المنهج الذي تقدم عرضه وفي الوقت نفسه فإن المنهج العلماني القائم يسعى حقيقة إلى التفريط بحق المسلمين في فلسطين، فبين المنهج العلماني والمنهج الشرعي مسافة بعيدة، يستحيل الجمع بينهما، ويستحيل تلفيق منهج مزيج بين المنهجين، والمنهج الشرعي وحي من الله، ولا ينحرف ولا يضل ولا يحتمل الخطأ، وها هو المنهج اليساري العلماني أثبت إخفاقاته المريرة على كل الجبهات مثبتاً عجزه عن النهوض بواقع الأمة.
إن خطر الشعارات الزائفة هذه لا يقل عن خطر النكبات نفسها التي تعرض لها المسلمون فيما يتعلق بقضيتهم في فلسطين، لأن هذا التضليل في الشعارات حرف الأمة عن المسار الصحيح الذي يمكنها من بلوغ أهدافها (الشرعية) كما أن هذه الشعارات حرفت أهداف الأمة بعد ما حرفت منهجها، فباتت تسعى إلى غير ما ينبغي أن تعمل له شرعياً من خلال الإرباك الذي حصل في أولويات عمل الأمة الإسلامية، نسأل الله تعالى أن يعيد للأمة رشدها وصوابها في منهج العمل وفي الأهداف والغايات.