عودة الأثافي
لم أكن اعرف، ولم أكن أتصور، بان مقالة الأثافي ستحدث من ردود الفعل ما أحدثت، وبأنها ستحذف من المواقع موقعا خلف الموقع، مع أني وبقرارة ذاتي، كنت أدرك تمام الإدراك، وأوقن تمام اليقين، بأنها ستغضب أكثر مما ترضي، وستشعل في نفوس الكثيرين نارا يصل أواراها إلى الحد الذي وصلني عبر البريد الالكتروني بأبشع الشتائم وأرذل الصفات.
أما الشتائم والوصم بصفات ما، فهذا أمر اعرفه ولا استهجنه، بل ويشعرني برضا وحبور، فالحاقد والجاهل، لا يملك من أدوات الحوار سوى الشتم والسب والقذع، ويكفيه من جوهره، انه لا يخرج إلا ما يعمر نفسه ويملأ قلبه.
ولكن المفاجأة، غير المفاجئة، أن أضع مقالتي في موقع أو منتدى، لأعود بعد دقائق أو ساعات لأجدها محذوفة، ثم أجد حظرا على اسمي يمنعني من دخول الموقع أو المنتدى.
والحقيقة ألتي لا تقبل الشك مطلقا، أنني لست بحاجة إلى تلك المواقع أو المنتديات، ليس تصغيرا من شانها أو حطا من قدرها، بل لانتشار المواقع والمنتديات إلى حد يغني عن الحاجة أو الضرورة.
ولكن المؤسف والمثير، أن تجد المواقع التي يعلن أصحابها انتماءهم إلى جانب وصف الحقيقة، والى جانب الاعتدال والحرية، والى جانب الحق في الاختلاف، تنقلب على نفسها ومدعياتها، إلى درجة أنها تضيق بمقالة تتناول اغتيال الرئيس الشهيد صدام حسين بالصورة التي بثتها قنوات العالم، والتي تشهد على وحشية لم تعهد في حيوانات الغاب وبدائية الإنسان.
وللحقيقة فان بعض الرسائل التي وصلتني، كانت تحمل أنفاس العتب والتساؤل والاستفسار والاستهجان، وكانت – كما فهمت – تستغرب من موقفي المخالف لنمط تفكيري المعهود – حسب رأيهم -.
لذلك فقط، عدت للأثافي ، لأبين وأوضح، ولأرفع العتب، وأمزق الاستهجان وأجيب على الاستفسار.
وسأعود للأثفتين، الأولى والثانية، فعليهما دار الخلاف، وحولهما ثار الاختلاف.
أما بالنسبة للأولى، وهي اثفية الشهيد صدام حسين، فأول ما ابدأ به، هو تركيز قاعدة فكرية أتبناها واتواخاها، وعليها أدير فكري، ومن نواتها انسج مواقفي، وهي قاعدة تقول " بان الظلم لا يستبدل بالخيانة ".
طبعا مع التحفظ على كلمة الظلم القابلة للاختلاف، ودون التحفظ على كلمة الخيانة التي لا تحمل سوى مدلولا واحدا لا يعرف طريقا نحو خلاف أو تفارق.
ولنقل- فرضا – وليس تسليما أو إيمانا أو اعترافا أو قبولا- بان الشهيد صدام حسين كان ظالما، بل وكان أكثر أهل الأرض ظلما، وانه مارس من الظلم أنواعا وأشكالا، فهل علينا من اجل التخلص من "ظالم" أن نعلن خيانة الوطن والدين والوحدة والتاريخ والأمانة والماضي والحاضر، وان نقدم تراب العراق العريق، وتاريخ العراق الزاخر بكونه مفصلا من أهم مفاصل الأحداث، في التاريخ العربي والإسلامي، إلى دولة تشكلت من مجموعة من العصابات، والى طغمة من خيانة أرخت ذقونها وعرضها ودينها ووطنها وتاريخها إلى قادة العصابات الاستعمارية.
ما حدث في العراق، أذهل الذهول، وأدهش الدهشة، واستهجنه الاستهجان، بل وتبرأت منه الغرابة وتبرأ منه المجهول.
ما حدث في العراق، لم يحدث في التاريخ إلا في العراق، واستبعد أن يحدث في تاريخ زمن قادم.
العراق العريق بالعراقة والأصالة والشموخ، عراق التاريخ والرؤى المتوثبة، قفز من مكانته العالية الشامخة، ليسقط في وحل الخيانة والاستعمار، على أيدي مجموعة من عصابات مرتزقة أحلت دماء الشعب من اجل عاهرة تمسح بحذائها في سجن أبي غريب كرامة المقهورين المغلولين، ومن اجل شواذ جاءوا من تاريخ منسي ليهتكوا عرض الرجولة في شخصية العراقي الذي يعاف طنين الذباب قرب أذنه.
خرج الشهيد صدام من الحكم، فماذا على الأرض الآن؟ غير القتل والسفك والاغتصاب والسحل وتفجير المساجد وحرق المصاحف والاختطاف؟ ماذا يوجد في العراق اليوم؟ غير المثاقب والنيران وخلع الفك والأضراس وسمل العيون وبقر البطون.
ماذا يوجد في العراق اليوم؟ غير الموت المنبعثة رائحته من كل ذرة من ذرات ترابه الزكي الطاهر؟ ماذا يوجد في العراق اليوم؟ غير الأنين والشكوى والترقب والتحصن خلف الرجاء واللوعة من مداهمة للمنازل والمساجد والشوارع والأرصفة والأعشاب، ماذا يوجد في العراق اليوم غير بكاء ونواح دجلة، وغير أنين حضارة العباسيين.
ومن يقود العراق اليوم؟ حفنة من مرتزقة، قتلة، انشأوا فرق الموت والاغتيال والحرق والسلب والنهب، ووضعوا جباههم تحت بساطير الاحتلال، واستباحوا عرض العراق وبكارته، دون أن يرقبوا بتاريخه العريق النابض بالحضارة إلا ولا ذمة.
كان العراق في زمن الشهيد عراقا آخر، يغص بالأمان، بالحضارة، بالعلم، بالشموخ، بالأنفة، بالقدرة على الرفض والمقاومة، واستطاع العراق، عراق الشهيد، أن يوقف حلم فارس والرافضة بإمبراطورية جديدة، واستطاع أن يمرغ جباه سادتهم بوحله الطاهر، بل ووقف سدا منيعا بين انهيار الأمة وبين سقوطها، واستطاع أن يرسم مستقبلا ارق سادة فارس وصلف الرافضة.
والمراقب البسيط، البسيط جدا، يستطيع الآن أن يعرف، بوضوح تام كذب ادعاء من اتهموا صدام بالظلم والاستبداد.
والإفرازات الحالية، للوضع القائم في العراق الآن، تكشف تماما مدى علم الشهيد بالخطط والنوايا التي كانت تستتر في نفوس من روجوا اتهامات المظلومية والاستبداد.
هؤلاء هم ، سادة العراق وسدنته، وهؤلاء هم من رسموا الطريق للإطاحة بالعراق قبل الإطاحة بالشهيد ذاته، الآن عرف العالم مدى قدرة الشهيد على قراءة الواقع الخفي لمن كانوا يذرفون دموع التماسيح تظلما من استبداد مزعوم ومدعى.
الآن رحل الشهيد، رحل من قاد العراق إلى مراتب الرفض والكرامة، فليأت عراقي منصف، أو عربي منصف، أو عالمي منصف، ليخبرني بمقارنة الواقع، أيهما اشد ظلما واستبدادا، الشهيد المفترى عليه، أم المرتزقة الذين باعوا العراق بكل ما فيه.
الظلم لا يستبدل بالخيانة.
هل الصراخ بأذن الكون يكفي لإزالة المبرر لخيانة لا يمكن أن تبرر؟ خيانة الدين، وخيانة الوطن، أمران يصعب على الكون بكل ما فيه من امتدادات أن يصوغ لهما مبرر.
ومن يبحث عن مبرر للخيانة باسم إزالة الظلم، فله طريق واحد فقط، يقود نحو كرازاي ونحو قادة العراق، هناك يمكنه أن يجد ضالته.
لان الشرف والأمانة والرجولة لن تقوده إلا نحو ضريح شهيد في العوجا، رفض عروض العرب الخفية لمغادرة العراق، وظل فيها يقاتل حتى وقف يوما في المهزلة التي قادها حاقدون موظفون بادراة الاستعمار، قال " يستطيع الشعب العراقي أن يقول صدام مستبد، ولكن لن يستطيع احد ما أن يقول بان صدام كاذب".
نعم، كلمات رجل يعرف ما يواجه، وأدرك حجم المؤامرة، لكنه كان يسخر منها ومن قادتها بابتسامته المعهودة.
من يريد أن يتحدث، فليتحدث عن الواقع، المسيطر على الأرض، عندها فقط سيكون لنا أذن تسمعه لو تحدث عن ظلم الشهيد واستبداده، أما من يبرر الخيانة بإزاحة الظلم وجلب الاستعمار، فنحن والصخر والحجر في غنى أن نكلف أنفسنا عناء الاستماع له والرد عليه.
وما ورد في الاثفية الثانية، يدل وبوضوح، على أني لا أوالي ولا امالىء، فوطني المذبوح من الوريد إلى الوريد، فيه من الخيانة ما يوازي خيانة من ركبوا على دبابات أمريكا وارو ربا، وهم عندي سواء.
وحتى حماس التي كانت قبل فترة من الزمن تمثل قلب المقاومة وعمقها، أتت نحو قلمي دون مواربة أو تملق، لان الحقيقة فوق كل المشاعر والانفعالات.
أما المواقع، فلتحذف ما شاءت، ففي القلوب مساحات تتسع لقول تأباه إداراتها وأصحابها الذين رضعوا الاستبداد والإقصاء لكل قول مغاير لقولهم أو لرأي يوجع عقولهم وأفئدتهم.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
النرويج 4- 4 -2007