طبع قبلة ساخنة على جبينها وودعها في حنين؛ كان وجهه متألقاً كما البدر؛ أرادت هي في صدق أن تمنعه؛ ولكنها وجدت بشارة النصر على وجهه؛ فقالت والدموع تبلل خديها في حرارة مودعة إياه في ثبات ويقين بنصر الله:
_ لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله
ابتسم في ثبات مجيباً:
_ محمد رسول الله..
واستطرد مشيحاً بوجهه عنها وقد اغرورقت عيناه بالدموع:
_ لا أريد أن أرى هذه الدموع على وجنتيك يا أم الشهيد..
خرج مسرعاً قبل أن تلحظ أمه نبرات صوته المتهدج؛ وهي من هي بعد أن سمعت تلك الكلمات من ابنها الحبيب؛ أفاضت عيونها دمعاً؛ بكت هذه المرة من الحزن والفرح معاً..!
اليوم وبعد أن بلغ الخامسة عشر من عمره يريد أن يرحل في صمت..!
عليٌّ ذلك الفتى الذي تعجب من صموده الرجال؛ اليوم غدا رجلاً في ناظريها تلك التي لم تعترف يوماً بأنه قد كبر؛ أضحت الآن موقنة بأنه صار رجلاً يُعتمد عليه..
بكت وابتهلت إلى الله أن يثبتها؛ ويعجل بنصره الذي وعد؛ لم تمضِ سوى لحظات؛ حتى زُفّ إليها عليٌّ شهيداً..!
لم تملك نفسها؛ وانفجرت ببكاء مرير؛ عليٌّ كان مبتسماً؛ عليٌّ كان ثابتاً رغم طلقات الرصاص الذي تفجر في جميع أنحاء جسده..!
تمالكت نفسها قليلاً؛ وعبق ذكرى وداعه لا تبارحها؛ كانت الزغاريد تلف المكان؛ والجميع تحلق حوله في حلقة ليمتع نفسه برؤية الشهيد؛ برؤية علي قبل أن يواريه التراب..!
لم تشعر بشيء مما حولها؛ أمسكت بيده في حنان ومسحت بها الدموع المنهمرة على وجنتيها؛ هذه اليد ما زالت دافئة..!
تفحصت ابنها لآخر مرة؛ ولكن هذه المرة في ثبات؛ وجدت يده مقبوضة بقوة؛ فتحتها في رفق خوفاً من أن توجعه..!
وجدته قابضاً على ورقة يقول فيها:
" أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله..
هأنذا أشعر بدنوّ أجلي؛ وأرجوا من الله أن يثبتني على دينه؛ خرجت اليوم وأنا أرى مقعدي من الجنة؛ كنت في شوق شديد إليه؛ فبلغته بفضل الله..!
أما أنت يا أماه فأرجوك ألا تبكيني؛ فشوق اللقاء إليك كبير؛ ولكن شوق الله أكبر..!
أمي الحبيبة؛ كنت دائما تسألين: ( لمَ لا تخرج..؟! ) فأجيبكِ بابتسامة؛ ولكن اعلمي أنها لم تكن أبداً سخرية؛ وإنما لم يكن قد حان وقت الإجابة؛ فاليوم وبعد أن سبقتكِ إلى دار الخلد أجيبك: " إن الخروج دون دفاع عن النفس لانتحار من وجهة نظري؛ ومما تعلمته من ديني؛ فقد قال تعالى: " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ "..
هكذا أفهم ديني؛ واليوم أعددت لهم ما أدرأ به السوء عن نفسي فالأخذ بالأسباب ليس ضعف إيمان؛ بل قوة إيمان..!
غاليتي أرجوكِ لا تبكي إن لم نلتقي؛ فلقاء الأرواح في الجنان عظيم..! "