في يوم من الأيام اجتمعت فأرة برفيقات لها في جحر كان مكان لقاء أيضا لجماعة السنانير كانت الفأرة تطمح إلى تأسيس جحر خاص بالفئران..لأن رفيقاتها كن يشعرن بعدم الاطمئنان إلى الاختلاط بالسنانير..لم تكن هناك أسباب تدعو لمثل هذا الحذر..خاصة وأن هذا الاختلاط حصل بعد ذلك الصلح الذي تم بين الفئران من جهة والسنانير من جهة أخرى..واتفق الطرفان بموجبه بان يتعاون كل منهما من أجل التغلب على البلاء الذي أصاب بلادهما..فقد أحاط ببلاد الفئران والسنانير الأعداء من كل جانب..في الشمال تمركزت كلاب رومية ذات وبر أشقر..احتلت ثغورا ومرافئ، ووضعت برجا للمراقبة في مضيق كان معبرا لمرور مراكب الفئران والسنانير إلى مشارق الأرض ومغاربها..وفي الجنوب تمددت أفاعي الصحراء في الشمس الحارقة فاغرة فمها يسبقها لسانها الراقص الذي كان في حالة حركة غريبة كأنها حركة مصارين جائعة تصدر فحيحا مخيفا، مترصدة، منتظرة فرصة مناسبة لالتهام الفئران المرعوبة..أما في الشرق فقد أغلقت الجحور التي كانت تسكنها السنانيروالفئران في تلك الفترة التي لم تكن قد حصلت فيها بعد قطيعة بين الجيران الأشقاء من السنانير والفئران..
إن السبب في القطيعة يرجع إلى عدم اتفاق الجيران على تقسيم الثروات والخيرات التي تزخر بها البلاد..ويقال أن هذه القطيعة مصدرها معسكرين متصارعين من الكلاب الشرقية والغربية..وقد ساهم الاختلاف بين السنانير والفئران في بقاء الكلاب والأفاعي متربصة، طامعة في نهب تلك الخيرات والقضاء بشكل نهائي على وجود أصحابها وعلى محوهم من على الخريطة..وفي الغرب كان المحيط يصدر هديرا قاسيا تصطك له أسنان الفئران والسنانير، مصحوبا بأخبار مفادها أن أساطيل خارقة للعادة ترسو على امتداد السواحل الغربية وعلى متنها كلاب مدربة أكثر شراسة من الكلاب الرومية المستقرة بالمضيق الشمالي للبلاد..كان الصلح بين الفئران والسنانير ضروريا فكلاهما ابتلي بالعدو الشرس وعليهما نسيان الماضي والعمل للمستقبل بروح المساواة، والإخاء وتحقيق العدالة..والانتقال من مرحلة الوحشية والنزعة العدوانية والقبلية إلى مرحلة المدنية والتحضر والاحتكام للقوانين .. كان هذا هو الخطاب السائد في الجحر المشترك بين الفئران والسنانير..وكان النسيان هو ما تحاول تحقيقه الجماعة المزمعة على النضال ..ولم يكن أمامها اختيار آخر غيرا لاجتماع في الجحر لترتيب الأمور والنظر في شؤون البلاد للخلاص من ضيق الحال..
كانت فأرتنا الطموحة تدعى "فيفي" وكان السنور اللطيف "كيفي" صديقا لها ..لم تكن تخبره بما كانت تفكربه..لكنها كانت تشعر دائما بالانزعاج بسبب غياب رفيقاتها عن حضور الاجتماعات بالجحر..هذا كان مصدرا دائما لقلقها..كان الجحر يتكون من ثلاث محلات، محل تكدست على طاولاته أوراق وملفات، ولصق جداره خزانة للكتب لم تمسسها يد ولم تمسح عنها الغبار..ومحل ثان كانت الفئران تهيئ فيه الشاي المنعنع، خاصة أثناء المناسبات المهمة كتلك التي كانت تخصص لانتخاب أعضاء وعضوات مكتب حزب الفئران والسنانير، أما المحل الثالث فقد كان مفتوحا للجميع..وفي ركن من أركانه قرب الباب، استقرت به طاولة لم تكن لتفارقه أبدا ..وكان الكرسي الخشبي ذا الأرجل الحديدية، المصبوغة باللون الأخضر رمز علم الفئران والسنانير الوطني هو الآخر لا يفارق الطاولة إلا لماما..
فأرتنا الطموحة " فيفي" كم من مرة حصل لها الشرف ..فمن حين لآخر كانت تجلس على ذلك الكرسي ممسكة بيدها جبنة من صنع محلي ..كانت تلتذ بالتهام تلك الجبنة الطرية، المصنوعة من لبن معز تشبه قرونها قرون الجبل الذي كانت تتسلقه بمهارة وخفة..كانت الجبنة صلبة من شدة تجمد الملح في طياتها..وكانت أسنان فأرتنا البارزة تتحرك برشاقة كلما واصلت مضغ الجبنة والتهامها قطعة قطعة..لدرجة أنها في أحيان كثيرة كانت تتوقف احتراما لحرارة التصفيق الذي كان ينبعث من تلك القاعة الساخنة بالتأمل والانتباه.. كان التصفيق يبعث في فأرتنا الحماس ويوثق صلاتها بالسنانيرولكن ما كان يزعجها هو حضور فأرتين فقط من رفيقاتها الكثيرات..كان هذا أيضا ما يشغل بال السنور "كيفي"..الذي كان يدرك أن نسبة أصوات الفئران مهمة جدا لاعتلاء حزب الفئران والسنانير كرسي الرئاسة في البلد المهدد..لكنه كان يشعر بالاطمئنان إلى وجود "فيفي" في الجحر المشترك..كما أن رفيقتها "روزي" كانت تملك تلك القدرة على استقطاب أصوات أكبر عدد من الفئران..لأنها تنتمي إلى عائلة معروفة..أمها مريدة من مريدات زاوية من زوايا الفئران التقليدية..وأفراد عائلتها يشغلون مناصب مهمة وحيوية في مؤسسات البلدة.."روزي" رغم ذلك لم تكن تملك ما تمضغه..ولم تكن تحظى بذلك التصفيق الذي كانت تتمتع به "فيفي".."فيفي" القوية، النشيطة ..كانت تملك قضية..وتواجدها بالجحر المشترك لم يكن فقط من أجل التضامن مع السنانير ضد أعداء البلد..فهذا التضامن هو من الأولويات..ولا احد بقادر على أن يتخلى عن القيام بواجبه الوطني وأن يرفض نداء الدعوة إلى تحرير البلاد وتخليصها من عضات الكلاب المتوحشة المدربة على القتل دون رحمة ومن لدغات الأفاعي السامة.. كان تواجدها بالجحر المشترك دلالة على إيمانها بقضيتها كفأرة لها حق العيش الكريم وممارسة حقوقها المدنية..وكانت تؤمن كسائر الفئران أن الحق ينتزع ولا يعطى.."فيفي" تعلمت منذ طفولتها كيف تنتزع حقها ..بداية في أسرتها الصغيرة..المكونة من أبيها وأمها وإخوتها الذكور والإناث..كانت ترفض الحياة التي تعود عليها سائر الفئران وترفض الميز الذي كانت تشعر به في أسرتها بين الذكور والإناث..ومرارا كانت تدخل في صراع بينها وبين أفراد أسرتها يصل إلى حد التراشق بما يوجد في الجحر من أدوات صلبة تستطيع أن تترك أثرا داميا في الجسد..وكثيرة هي الندوب التي تحتفظ بها "فيفي " على جسدها الأنثوي الموشوم بجمال الندوب وعنفها.."فيفي الشقية" كانت تجد صعوبة بالغة في إقناع رفيقتها "روزي" بالانضمام إلى الجحر المشترك..ولكنها شعرت بنوع من البهجة والانتصار بانضمام "شيشي" وبتعاطفها مع قضية الفئران.."شيشي" كانت مدرسة للتاريخ والجغرافية..أما "روزي" فكانت تدرس مادة اللغة العربية..كانت " شيشي" من المدرسات اللواتي أسندت لهن مهام التدريس في مناطق نائية بعيدا عن أسرهن..وهي بسبب ذلك لم تكن تعاني ما تعانيه "روزي" من رقابة قاسية من طرف أسرتها..ولكنها بالمقابل كانت تشعر بضيق أفق البلدة.. لذلك حرصت على إخفاء كل شيء عن رفيقاتها خوفا من الإضرار بسمعتها..لم تكن تكلمهن عن مغامراتها مع رفاقها السنانير..أكيد أنها كانت تربطها علاقة حميمية مع سائر السنانير..تتبادل معها النقاش حول قضايا مستعصية كعلاقة المساواة بين الفئران والسنانير..وغالبا ما كان هذا النقاش ينتهي إلى إبداء" شيشي" ملاحظتها الذكية حول حضور السنانير اجتماعات الحزب دون زوجاتهم..وكان السنور "كيفي" يرد قائلا: زوجات السنانير يجب أن يحضرن عن قناعة" ..كان هذا الرد لاتقتنع به "شيشي" ..وظل مصدر تساؤل ودهشة لديها.. "فيفي" وحدها استطاعت أن تجد جوابا عن هذا التساؤل..ولم يكن ذلك سهلا إذ تطلب منها جلسات حوار طويلة..وتبادل للأفكار..ومحاضرات..وندوات متعددة ومختلفة وأهمها تلك التي كانت تقام في البلد بمناسبة "ثمانية مارس"..كانت "فيفي" الفأرة الوحيدة التي تستدعى لتقديم وتغطية نشاط "ثمانية مارس".. تمكنت من خلاله من تأكيد ذاتها داخل جحر يسبح في روتين قاتل..تستهلك فيه الفئران ولا تنتج شيئا.."فيفي" على الأقل تعلمت كيف تمضغ الجبن البلدي بطريقة تجعل كل الفئران يطمحون إلى تقليدها..فأصبحت طريقتها موضوع حديث الفئران والسنانير على حد سواء..إن وجود مناسبة ك"ثمانية مارس" كان سببا أساسيا في بروز مواهب فأرة ك"فيفي" فماذا كانت ستكون "فيفي" لولا وجود مثل هذه المناسبة؟ هذا هو السؤال الذي كانت تطرحه باستمرار وهو سؤال مهم في بلدة مثل تلك التي يعيش فيها الفئران والسنانير في حالة نفور وعدم تقارب وفي حالة سوء فهم لما هو مشترك بينهما وما هو مختلف..مناسبة "ثمانية مارس" كانت تقام كتقليد سنوي لتكريم الفئران..وذلك تحت رعاية السنانير..وبما أن السنانير كانت لها مصلحة لإقامة مثل هذه المناسبة فإنها كانت تشعر بالارتياح عند اجتماع أكبر نسبة من الفئران في الجحر المشترك..وكانت تلك النسبة الكبيرة من حضور الفئران تنخفض وتقل لتصل إلى مستواها العادي بعد انتهاء نشاط "ثمانية مارس" مباشرة..وهكذا كانت بلدة الفئران والسنانير تشعر بالمساواة بين أفرادها ..وكانت الفئران في ظل هذا الوضع تستطيع أن تطمئن إلى السنانير لأن السنانير بدت راضية كل الرضى عن الفئران..وبدت مستعدة للتنازل عن كل الامتيازات التي تمتعت بها قبل نشأة ظاهرة" ثمانية مارس"..ورغم أن "فيفي" كانت تجهل الأبعاد الحقيقية من وراء وجود مناسبة ك"ثمانية مارس" فإنها ربطتها بالتحولات التاريخية التي عرفتها بلاد الكلاب المتربصة ببلدها والمنتظرة الفرصة للاستيلاء عليها ونهب خيراتها..فالكلاب العدوة للفئران والسنانير كانت أكثر ذكاء حينما أنتجت "ثمانية مارس" والفضل في وجود هذه الظاهرة التاريخية يعود إلى الكلب الشيوعي "ماكس"..