اليهودية الدلوعة
قصة قصيرة
حكاية حقيقية حصلت مع ثلاث عمال حفارة البترول في دول الخليج العربية اعرف العربي منهم
يحكى انه كان هناك ثلاثة زملاء من عمال التنقيب عن النفط في إحدى البلدان العربية ‘وكانوا يعملون من ضمن مئات العمال من مختلف الجنسيات ضمن شركة أمريكية كبرى
للتنقيب عن النفط ‘ وكان الثلاثة من ضمن مفرزة واحدة يعملون على ماكينة الحفر الرئيسية والتي تحفر أعمق أبار النفط في المنطقة وعلى هذا الأساس كان الثلاثة من المتميزين في الشركة وفي المنطقة كلها من ناحية الرواتب العالية والإضافات والحوافز لان عملهم كان من اشق الأعمال في حقول النفط وأدقها تقنية‘ وكان الثلاثة من جنسيات مختلفة الأول كان بريطانيا من أصل ايرلندي في العقد الخامس
من عمره وكان طويل القامة نحيف الجسم ذو عينين زرقاوين غائرتين وزائغتين ووجه شاحب فيه هزال ظاهر للعيان وانف دقيق طويل يميل الى الانحناء قليلا "أقنى بعض الشيء" واحدوداب قليل في ظهره نتيجة لطوله وهزال جسمه وكان
يدعى اسمه طوني وينادى بلقب (يانكي) ومعناها في لغتهم فارع الطول‘ وكان إذا خلع قميصه من شدة الحر والرطوبة العالية تظهر أضلاعه بارزة ومن يدقق النظر إليه يستطيع عد أضلاع قفصه الصدري ضلعاً ضلعاً وكان يقال السبب لقلة طعامه بسبب بخله الشديد وهذا معروف عن أهل تلك البلاد‘ والمعروف أن درجة الحرارة تصل أحيانا في شهر آب"أغسطس" إلى 50 درجة مئوية في صحراء تلك البلاد‘
والثاني كان أمريكيا ضخم الجثة كبير الرأس طويل الجسم لكنه اقل طولا من يانكي البريطاني وكان غليظ الشفتين تفوح من فمه رائحة كريهة من كثرة مضغ التبغ وتفله على الأرض بين الحين والحين وكان اسمه جورج في العقد الرابع من العمر وكانت رقبته دائماً حمراء من حرارة الشمس وكثرة تعاطي المشروبات الكحولية وماء الشعير بالكحول "البيرة" وكان ذو صوت جهوري وضحكة عالية تسمع من مسافة بعيدة وكلما ابتسم أو ضحك ظهرت أسنانه الأمامية مخضرة من كثرة تدخين ومضغ التوباكوا "السيجار" وكان المسئول عن المفرزة كون الشركة أمريكية وان الإخوة أهل ذالك البلد العربي يكنون كثيرا من المودة والتمييز للأمريكان بشكل عام عرفانا لجميلهم وفضلهم باكتشاف البترول في أراضيهم من ناحية ولأنهم يخشون من سطوتهم من ناحية أخرى‘ وعلى هذا الأساس كانوا وما زالوا يمنحونهم امتيازات ورواتب أعلى عن باقي العمال من أي بلد كانوا حتى أنهم يمنحونهم امتيازات أعلى من أبناء البلاد المحليين‘
والثالث كان عربيا فلسطينيا وكان شابا فتيا مربوعا لا بالطويل ولا بالقصير عريض الجبهة اسود العينين دقيق الأنف عظيم الشارب ذو قسمات حادة ‘ شديد الذكاء صعب المراس حاد الطبع ‘ وكان في عقده الثالث من العمر وكان اسمه مصطفى‘ وكان اقلهم خبرة واقل امتيازات من ناحية الراتب والسكن والطعام والمعاملة من إدارة المشروع مع انه كان أكثرهم نشاطا وإخلاصا وثقافة وتفاني في العمل وكان أكثرهم تعليما حيث كان مهندس بترول والآخران لا أي شهادات علمية وكل ما لديهما خبرة عملية أكثر بسبب فارق السن‘ علاوة على كونهم أجانب وعند العرب "كل إفرنجي ابرنجي" كما يقول المثل الشعبي الدارج‘ وذات يوم عطلة من أيام عيد الأضحى في ذلك العام اتفق الثلاثة أن يذهبوا معا إلى قرية قريبة لشراء بعض الحاجات الضرورية لهم من ناحية وللتغيير من ناحية أخرى‘ وكان ذاك اليوم من اشد أيام أب (أغسطس) حرارة ورطوبة‘ وركب الثلاثة سيارة الجيب عهدة جورج الأمريكي وانطلقت بهم إلى تلك القرية وبعد قضوا حوائجهم من تبضع وشراء وهموا بالعودة إلى مخيمهم في الصحراء عند موقع الحفر صادفوا بطريقهم مقهى شعبيا على جانب الطريق في كوخ من سعف النخيل أمامه شجرة نخيل عملاقة تحتها بعض طاولات صغيرة حولها كراسي مصنوعة من الخشب والخوص‘ وكان قد اخذ منهم التعب والجهد من كثرة الحرارة والرطوبة‘ وكانوا أحوج ما يكونون إلى الراحة وشرب بعض الشاي أو القهوة حيث لم تكن هناك ثلاجات ولا مشروبات غازية باردة في ذلك المقهى أو في تلك القرية لعدم وجود الكهرباء هناك في أوائل الخمسينات أيام هذه القصة‘
فما كان من مصطفى العربي الفلسطيني الشهم إلا أن دعاهما لتناول فناجين قوة على حسابه فوافق الايرلندي/البريطاني فورا لان كل شي مجاني عنده مطلوب لشدة بخله كما ذكرنا
لكن الأمريكي تردد في البداية لأنه لا يعرف بطبعة استضافة احد أو مشاركة احد لا بطعام ولا بشراب فهو يعيش على سجيته على النظام الأمريكي (american system) كما يقولون‘ ولكنه وافق أخيراُ من شدة التعب والتعرق علاوة على أن رقبته أصبحت كرقبة الديك الرومي (ديك الحبش) من كثرة الاحمرار وأحس بحساسية شديدة فيها وانه بحاجة لان يمسحها بقليل من الماء‘ وترجل الثلاثة من السيارة وجلسوا على طاولة صغيرة واحدة تحت ظلال شجرة النخيل الضخمة أمام كوخ المقهى‘ فنظر مصطفى إلى الداخل فرأى رجلا مسنا جالسا على كرسي صندوق المحاسبة داخل المقهى‘ فحياه مصطفى بتحية الإسلام قائلا السلام عليكم يا عم
فرد الرجل التحية بأحسن منها وقام من مكانه متجها إلى الثلاثة تعلوا وجهه ابتسامة ترحيب ‘ وكان قصير القامة ممتلئ الجسم مرتديا الزي الوطني لتلك البلاد بارز من تحت
ملابسه كرش كبيرة قليلا‘ وسال مصطفى بعد الترحيب باللهجة المحلية "تشربون ايش " يا ابني أنت وهذول الأجانب" فسأله مصطفى ماذا عندكم يا عم ؟
قال عندنا قهوة عربي وتركي وشاي‘
فسال مصطفى زميليه اليانكي وجورج‘ باللغة الانجليزية لغتهم طبعا بعد ان اخبرهم عن المشروبات الموجودة في ذاك المقهى‘ فطلب يانكي شاي وطلب الأمريكي قهوة‘
فقال مصطفى لصاحب المقهى اطلب لنا يا عم من النادل الهندي الذي بالداخل ان يعد فنجان قهوة للأمريكي وفنجان شاي للبريطاني وكاسة شاي لي إذا تكرمت‘ وما هي إلا لحظات وإذا بالطلبات قد وضعت على الطاولة‘ بينما كان الزملاء الثلاثة يتحادثون عن العمل وبعض شؤونهم الخاصة‘ وكان صاحب المقهى الرجل الشايب المسن من النوع الفضولي حيث كان يرمقهم بنظراته دون أي يفهم ولا كلمة واحدة من حديثهم‘ ومد يانكي يده على فنجانه ورفعه بطريقة تلقائية إلى فيه ليرشف رشفة بلهفة لأنه كأي بخيل يعشق أكل أو شرب ما يقدم إليه مجانا ومن ابخل من البريطانيين ايرلنديين أو او اسكتلنديين أو انجليز أيا كانوا وبعد أن رشف أول رشفة من فنجانه سقطت ذبابة صحراوية قذرة فيه‘ فما كان منه إلا أن وضع الفنجان بكل هدوء واخرج عود ثقاب من علبة الكبريت التي كانت أمام جورج المدخن الشره ‘ ورفع بها تلك الذبابة من فنجانه بكل هدوء ووضعها على الطاولة ثم نفخ عليها برفق حتى جفت جناحيها وطارت‘ فودعها بابتسامة رقيقة‘ ثم أكمل شرب فنجانه وكأن شيا لم يكن‘ وصاحب المقهى الفضولي يرقب ويتعجب في سره‘ ورفع الأمريكي فنجانه إلى فمه ليرشف رشفة من قهوته لكن الذبابة القذرة حطت مسرعة هذه المرة عل فنجانه وسقطت به‘ والمعروف عن الذباب كلما طردته "نشيته" كما نقول بلهجتنا المحلية يعود إلى نفس المكان وكأنه يتحدى من يطرده‘ وتلك الذبابة التي وجدت كل رفق و كل حنو ودلال ومساعدة من البريطاني يانكي إلى جانب ما تتحلى به من الدلع والمياعة أن نزلت في فنجان جورج الأمريكي لكي تجرب حظها معه وتتدلل عليه وكأنها من أصل يهودي صهيوني تعيش في دلال على الانجليز والأمريكان وقد ضلت المكان ولكن رائحتهما سهلت لها لقائهما في فنجانيهما اللذان حصلا عليهما ضيافة من شهم عربي فلسطيني همام على ارض عرب أقحاح من احفاذ حاتم الطائي‘ وفعلا كانت تلك الذبابة الدلوعة من الحصافة والذكاء والدهاء بنزولها في فنجان أخوها الأمريكي بعد فنجان أبوها البريطاني‘ وأخرجها أخوها جورج الأمريكي بكل هدوء كما فعل قبله والدها يانكي البريطاني‘ وطارت بعيدا هذه المرة ولكن الأمريكي لم يشرب الفنجان بل سكبه على الأرض الرملية ثم طلب فنجان آخر واشترط على النادل الهندي أن يغسل الفنجان جيدا أو أن يصب له في فنجان آخر نظيف‘ وحصل على مبتغاه وصاحب المقهى وكان يكنى بابي عبدالله حيث ناداه به عامله النادل الهندي يراقب عن كثب بفضول أكثر من الأول هذه المرة‘ وتأبى تلك الذبابة الدلوعة المغناج إلا أن تجرب حظها مع مصطفى الفلسطيني الشهم فنزلت مسرعة بكل وقاحة ودخلت داخل كاسته لعلها تلقى دلالا أكثر مما حصلت عليه من فنجاني أقاربها يانكي وجورج‘ ولكن هيهات لها ان تنال ذلك الشرف فما كان من مصطفى إلا أن ألقى على طول يدة كاسته بما فيها من شاي وذبابة فكُسرت الكاسة وسكب الشاي وقتلت الذبابة الدلوعة الملعونة‘ وطلب مصطفى صارخا بالنادل آتي بكاسة شاي أخرى وسجل ثمن الكاسة المكسورة على الحساب سأدفع ثمنها مع المشروبات‘
وهنا لم يستطع صاحب المقهى أبو عبد الله الانتظار فهب واقفا من مكانه وذهب الى مصطفى وسأله بكل فضول واهتمام قائلا:
بالله عليك اخبرني بالذي حصل ؟
الذبابة سقطت في فنجان البريطاني فأخرجها ولم يهتم وشرب الفنجان وكان شيئا لم يكن‘ والأمريكي أخرجها عندما سقطت في فنجانه وحافظ على حياتها كالأول ولكنه سكب القهوة على الأرض وطلب فنجان قهوة جديد بفنجان نظيف ولم يشرب مثل "زميله" الانجليزي‘ إنما أنت يا فلسطيني يا ابن ديني وعروبتي ألقيت الكاسة بعيدا بما فيها ولم تحافظ على الذبابة كزميليك ولا على الكاسة‘اخبرني وارضي فضولي‘
فقال له مصطفى انتظر قليلا يا عم حتى اسألهما لأني مثلك لا استطيع الإجابة عنهما أما عني سوف اشرح لك بالتفصيل لماذا كسرت الكاسة بعد أن اعرف منهما لماذا تصرف كل منهما لطريقته‘ وسألهما فعلا باللغة الإنجليزية وأجاباه بينما الفضولي أبو عبدالله على أحرٍ من الجمر ليعرف الأسباب‘
وكان جواب الانجليزي انه قال تلك الذبابة كالمرأة اليهودية إذا عاملتها برفق تتركك وشأنك أما إن عاكستها غلثت عليك عيشتك ولنا سنوات وسنوات نعاني من الصهاينة اليهود حتى بعد وعد بلفور وبعد أن أعطيناهم وطنكم فلسطين ما زالوا يطلبون الكثير‘ ثم إنها لم تشرب من الفنجان ولم تنقصه فشربته‘ ولو سكبته مثل الأمريكي جورج لطلبت لي فنجانا آخر الست أنت الذي دعانا على حسابه‘ فقال له مصطفى بكل شهامة العرب لو طلبت عشر فناجين لدفعت فرد عليه يانكي البريطاني يا حبيبي من يدري إذا قدمنا إلى هنا مرة ثانية كيف لي ان أضيفك أكثر فنجان هذا ان لم يضيفنا جورج‘ وكان كل همه أن لا يخسر ثمن فنجان شاي أو فنجان قهوة لشدة شحه وحرصه وبخله. وأما جورج فكانت إجابته عن الذبابة نفس الشيء بالتمام والكمال وإنما سكب الفنجان وطلب
فنجانا آخر غير الفنجان لان الذبابة التي سقطت في فنجانه كانت نفس الذبابة التي أخرجها يانكي من فنجانه وبما انه كان قد رشف رشفة قبل سقوطها فقد حملت على رجليها وجناحيها
من لعاب يانكي الكاثوليكي فكيف لي ان اشرب من فنجان اختلط فيه لعاب كاثوليكي ولو بطريق غير مباشرة عن طريق الذبابة وأنا بروتستنتي‘ وزاد مصطفى من عنده قائلا لأبي عبد الله " تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى"
يا عم بعد أن ترجمت لك أسباب الذي فعلاه أتريدني أن اشرب من كاسة سقطت فيها ذبابة تلك أوصافها من أبيها وأخيها وبعد كل الذي قالوه ‘ ثم أنت تعلم أن الذباب قذر ونجس وملوث‘
نعم كان حريا بي أن لا اكسر الكاسة لكن من غُلبنا ومرارنا لم يبقى عندنا طول بال‘ آه لو تعلم ما نلاقيه هنا من تفريق في العمل على ارض إخوتنا وآبائنا وأجدادنا وصدقني لو لدي ركوبة ما أتيت معهما بالسيارة التي هي امتياز للأمريكي مع العلم إن درجتي وثقافتي أعلى منه ولو أن احدهما دعاني لشراب أو طعام لن اقبل منه لأن كل أموالهم حرام ولن ننسى ما فعلوا بنا هم والصهاينة ومازالوا يفعلون‘
حتى اسمع ترجمة كلامهم كيف يكرهون بعضهم البعض‘
فما كان من أبو عبدالله إلا أن تقدم إلى الشاب مصطفى وقبله على انفه احتراما وتقديرا كعادتهم العربية الأصيلة في تلك البلاد‘ وقال له يا مصطفى انتم يا ولدي اهل عز وكرامه ورباط ونضال لكم منا كل محلة وتقدير وافتخار ودعني أخبرك بشي إنني أنا ابن السبعين كنت قد ذهبت في يوم من الأيام مع والدي الى فلسطين قبل ان يحتلها اليهود بمساعدة الانجليز
وعملنا في مزارع البرتقال التي تسمونها البيارات وقد كان أهلكم في فلسطين من أكرم الناس وقد أكرموا وفادتنا وكانوا في عز وبحبوحة عيش مع العلم إننا كنا هنا لا نملك قوت يومنا‘
نسال الله يا بني لكم الثبات والنصر والتحرير إن شاء الله‘
فشكره مصطفى ومد يده ليدفع الحساب ولكن أبو عبدالله العربي الشهم رفض اخذ النقود منه وقال له هذا حق ضيافة علينا وخيركم سابق وألح عليه ان يمر على المقهى كلما أتى إلى تلك القرية‘ فودعه مصطفى وداعا حارا كأنه يعرفه منذ مدة طويلة‘ وانطلق الجميع بسيارة الجيب يقودها ذو الرقبة الحمراء جورج إلى المخيم وعينا أبي عبد الله تشيعهما حتى توارت السيارة بعيدا عن الأنظار تاركة وراء زوبعة من غبار الصحراء.
ملاحظة: اليهودية كناية عن الذبابة القذرة المزعجة
العقيد/المهندس فهمي حمدالله - شاعر الارض -أبو المعتصم
1-10-2008