كان الفجر يدفع بقوة خيوط الظلام إلى ما وراء الأفق ، إلى البعيد حيث كان ، ليستقبلا سوية وطن النجوم . صوت أنثوي سرى بجسده كالخدر الناعم وهي تهنئهم بسلامة الوصول ، نفض غبار الغربة وحمل محفظته واتجه إلى باب الطائرة ..نور فضي يخيم على المكان ونسيم عليل لفح وجهه، تنشقه بعمق ، ثم أنشد بصوت هامس أبيات شعر سكنت وجدانه :
وطن النجوم أنا هنا **** حدق أتذكر من أنا
أنا ذلك الولد الذي **** دنياه كانت ها هنا
هبط مسرعاَ وهو يبتسم لشمس بلده ..لأرضه وترابه .
مع طلوع الشمس كان يقف أمام منزله ، يتفحص بشوق جدرانه الطينية والغبار الرطبة التي تعلو نوافذه . كان كمن يسترجع أعضاء جسده عضواَ تلو الآخر .
أصوات كثيرة في الداخل تنتظر قدومه ، رن الجرس فتعانقت الضحكات مع القبلات .. لم يشعر بنفسه إلا وأياديهم تتقاذفه ككرة ليقع أخيراَ في حضن دافئ لطالما تاق الى الرقود فيه.
لحظات مرت مسرعة لم يع فيها غير الوجوه التي تغيرت معالمها ، وجه آلمه جداَ ، كان فيما مضى تعلوه الصرامة والهيبة ، بعثرته أعاصير الزمن ، سلبته كل .. شيء حتى ذاكرته ، صوت كان يدوي كالرعد في أرجاء المنزل يجلس غير آبه بشيء ..غريب وسط أهله ووطنه ، وهو الذي كان يؤمن بأن الغربة فقط هي خارج هذه الحدود .
ثلاثة عشر عاماَ كانت كفيلة بتغيير أشياء كثيرة ، أعادت بالكبير إلى أرذل العمر ..وحولت البرعم الصغير إلى وردة كبيرة تفتحت أكمامها على براعم صغيرة .. هز رأسه متمتماَ " من يستطع أن يمسك بزمام الحياة ..لا أحد ..لا أحد .
مرَّت الأيام متلاحقة وهو سعيد بهذا الجمع الذي عانق سهاده في ليل الغربة ..بثمار كده يانعة أمامه ..هاجر لأجلهم وعاد يسبقه شوقه وحنينه إليهم ..ثم تبعتها سنوات فقد فيها الدافع القوي للبقاء .
شعر بالصقيع يسري في شريان حياته وبأن تلك اللمعة التي بهرته لوقت ما بهتت، و بأن دوام الحال من المحال .