أحدث المشاركات
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 22

الموضوع: اجزم قريبة مني

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    العمر : 53
    المشاركات : 57
    المواضيع : 8
    الردود : 57
    المعدل اليومي : 0.01

    اجزم قريبة مني

    اجزم قريبة مني
    إلى أبي ...
    بعينيهِ شوقُ البلاد
    واحتراق الانتظار
    وأحلام المنفى

    وائل راشد

    في داخلهِ مقبرةٌ لا نهائيةٌ لملايينِ المفارقاتِ المؤلمة، آلامٌ ودمارٌ وانتظار ما قد لا يأتي. لا امرأةٌ كانتْ تأتي في يقظتهِ ولا في أحلامهِ. بُعد المسافات، بُعد الأهل، فالطريقُ إلى حيفا طويلٌ طويلْ، ولن يمّتدَ بهِِ الأجل على كلِ حال، سيموتُ قبلَ العودةِ إلى بيتهِ الطيني، سيموتُ بعيداً عن الأرضِ التي شهدتهُ صغيراً.. الأرضِ التي ربتّهُ. رجلٌ اعتصرَ في قلبهِ أنهاراً من الألم، وصوراً من الماضي صارخةً بالأسى والتعب. ما كلَّ ولا ملَّ مِنَ الانتظارِ، من الاحتضارِ بعيداً عن بيتهِ الريفي.
    كم هي صعبة ٌأن تتحولَ بين عشيةٍ وضحاها إلى لاجئ!!.
    أذكرهُ جالساً أمام الدارِ على كرسيهِ الخشبي الصغير، ممسكاً بين أصابعهِ "سيجارتهِ" التي كانتْ رفيقتهُ في رحلةٍ طويلةٍ امتدتْ بهِِ من البلادِ إلى المنفى إلى غرفةِ الإنعاش، واستقرتْ بهِِ في قبرهِ الواسعِ المريح. يحكي لجارنا كيفَ أَنهم وضعوا للبقراتِ علفها ليومين، وكيفَ أنهم خبئوا محصولَ القمحِ والشعير، وأخذوا معهم مفاتيحَ الدارِ واثقينَ من عودةٍ ستكونُ قريبة. لم ترهقهُ السنون، ولا بُعّد الأولادِ وهجرتهم، ولا متاعبَ الحياةِ و بساطةُ جارنا العزيز، بقدرِ ما أرهقتهُ كَلمة ُلاجئ.
    موجةٌ أخرى من سعالٍ أجشٍ خانقٍ تبتلعُ أنفاسَهُ، وتعتصرُ عينيهِ دمعاً، ويصّفرُ لها وجهَهُ لدرجةِ الاختناق. وبعدَ أن تنتهيَ نوبة ُالسعال، كان ينظرُ إلى جارنا العزيز بعينيهِ الواسعتين اللامعتين قائلاً: "يا أبو أكرم أكادُ أراها أمامَ عيّني. هناكَ الجامعُ، وهناكَ بيتُ أبي محمود، تلكَ الشجرةُ زرعتها أم العبد، ذاك المقهى حيث كان أبي يجلسُ كلُ يوم، وهذا هو الطريقُ إلى حيفا. أراها أمامي يا أبو أكرم أحسُ بها قريبةً مني". وكمن لا يريدُ تصديقَ كل ما جرى له، يلتفتُ إلى صديقهِ الوحيد مُبعداً عنه سيلَ الأفكارِ المتشائمة: "صّب الشاي يا جار سنعود، والله سنعود، المسألة مسألة وقت لكننا سنعود".
    كان والدي كلما تذكرَ بلدتهُ "اجزم" وطريقُ حيفا لمعتْ عيناهُ كأنهما نجمانِ في سماء.
    في غرفةِ الإنعاشِ كان ممدداً على سريرهِ يصارعُ الوقتَ والمرضَ والموت. لم أستطعْ أن أخففَ عنهُ آلامهُ التي بدتْ لا نهايةَ لها. في تلكَ الغرفةِ صاحبة الأجهزةِ الحديثةِ المعطلة، و التي لم يكن يتحركُ فيها سوى ذلك "السيروم" المتراكض نقطةً إثر نقطةٍ، مطمئناً نفسي ولو قليلاً بأن هذا الجسد المحطم مازال على قيد الحياة.
    هبتْ نسمةٌ رقيقةٌ إلى غرفةِ الإنعاشِ من خلال النافذةِ المفتوحةِ، جعلتهُ يشعرُ بارتياحٍ واضح. راحتْ عيناهُ الزرقاوان اللامعتان تحدقان مجدداً في السماء. في تلك اللحظةِ رأى والدي سرباً من العصافيرُ تطيرُ مبتعدةً، وانكشفتْ له سماء رأى فيها والدهُ جالساً على كرسّي الخيزران في مقهى القرية. رأى شيخهُ مَنْ حفظه القرآن وعلمه الكتابة والقراءة، رأى بيتهُ والبقرات التي قد تكون الآن جائعةً بعد غيبةِ يومين عنها. رأى أمهُ وكل الوجوهِ التي أَحبها، رأى طريقَ حيفا، وجارهُ العزيز"أبو أكرم"، ثم أغمضَ عينيهِ واستسلمَ لنومٍ عميق. نظرتُ إلى والدي الملقى أمامي على سريره البارد، فأدركتُ حينها أنه الآن فقط تخلصَ من عذاباتهِ اليومية، ومن سعالهِ الحاد، ومن وجعِ الصدرِ والرجلين، ومن آلامِ البُعاد عن الأرضِ، وهجرةَ الأولاد. . رحلَ موقناً أن اجزم صارتْ قريبةٌ مني.. إنها قريبةٌ مني.

    11 /1/2000

  2. #2
    الصورة الرمزية حسام القاضي أديب قاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    الدولة : مصر+الكويت
    العمر : 63
    المشاركات : 2,213
    المواضيع : 78
    الردود : 2213
    المعدل اليومي : 0.33

    افتراضي

    أخي الفاضل الأديب / وائل راشد
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أولاً مرحباً في الواحة
    قرأت قصتك أكثر من مرة فقد شدتني أحداثها
    وأسلوبك المميز في السرد ..
    عمل يشير إلى قاص متمكن من أدواته
    طرحت مشكلة اللاجئين بشكل عميق مؤثر وبلغة معبرة
    تحمل في طياتها الكثير من الشجن والأسى لتحفر في وجداننا
    آخاديداً لا أظنها تندمل..
    تنقلت بين الماضي والحاضر بسلاسة مع تصعيد الحدث
    ليبلغ ذروته مع لحظة النهاية المؤثرة ، والتي قد أختلف
    معك على جزئية بسيطة فيها
    ولكن العمل رائع في مجمله .

    للتثبيت
    حسام القاضي
    أديب .. أحياناً

  3. #3
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    العمر : 53
    المشاركات : 57
    المواضيع : 8
    الردود : 57
    المعدل اليومي : 0.01
    الأديب الجميل حسام القاضي:
    ببالغ تقدير واجلال انحني لمرورك الكريم على قصتي. وصفك لقصتي بالعمل الرائع اسعدني ، وما اسعدني اكثر هو قراءتك لها اكثر من مرة. اعجابك بقصتي وتقييمك سيدي شرف كبير حضيت به .
    خالص المودة والاحترام والتقدير

  4. #4
    الصورة الرمزية راضي الضميري أديب
    تاريخ التسجيل : Feb 2007
    المشاركات : 2,891
    المواضيع : 147
    الردود : 2891
    المعدل اليومي : 0.46

    افتراضي

    في قصتك هذه وجدتك تتكلم عنّا جميعا ، تتكلم عن جدي وعن مدينته الخضيرة في حيفا ؛ وجدتك تتكلم عن بلادنا كلها وعن كل لاجئ أخرج قسرا من دياره ، فذهب وهو يمني النفس بعودة قريبة ، الكل عاد إلى موطنه ، وبقينا نحن لاجئين من طراز خاص وفريد من نوعه .

    لكننا سنعود " سنرجع يوما إلى حينا "

    كنت رائعًا جدًا أيّها الأديب الجميل .

    تقديري واحترامي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #5
    الصورة الرمزية مازن لبابيدي شاعر
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Mar 2008
    الدولة : أبو ظبي
    العمر : 64
    المشاركات : 8,888
    المواضيع : 157
    الردود : 8888
    المعدل اليومي : 1.51

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله
    أخي وائل راشد
    أرحب بك في الواحة الخضراء
    أسعدتني جداً مشاركتك الأولى المتميزة من خلال قصة رائعة فعلاً في مضمونها وحبكتها وصورها ، وقد أحسن الأستاذ حسام بتثبيتها .
    مشاركة تعدنا بمزيد من الأعمال الراقية لك والتي سننتظرها بشوق .
    أخي وائل تحيتي وتقديري .
    يا شام إني والأقدار مبرمة /// ما لي سواك قبيل الموت منقلب

  6. #6
    الصورة الرمزية رشدي مصطفى الصاري أديب
    تاريخ التسجيل : Mar 2009
    الدولة : الرياض المملكة العربية السعودية
    العمر : 57
    المشاركات : 164
    المواضيع : 16
    الردود : 164
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    إلى أبي ...
    بعينيهِ شوقُ البلاد
    واحتراق الانتظار
    وأحلام المنفى

    الأخ الفاضل وائل راشد
    لقد استطاعوا بحقدهم أن يبعدوا أجسادكم عن أرض الوطن
    لكن أرواحكم وعقولكم مازالت مغروسة في كل افيائه ,تزرع في كل ذرة تراب غرسة أمل وتصميم بالعودة
    وطرد المحتل
    وتعد الطيور والبلابل بأنها لا محالة ستغرد في يوم ما أنشودة الحرية والانتصار
    امتناني واعجابي الشديدين بهذه القصة المعبرة
    عيناك شاردتان ماذا تبغيان هل تبحثان عن الأليف
    ياحلم عينيك ورؤياهما ماتا مع الانسان والزمن الشريف

  7. #7
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    العمر : 53
    المشاركات : 57
    المواضيع : 8
    الردود : 57
    المعدل اليومي : 0.01
    الأديب راضي الضميري:
    " ان تشاركني حلم العودة الى بيتنا الطيني....الى حينا"، وبلهجة الواثق، ترك في نفسي انطباعاً ساحراً. انحني لكل الاقلام، والاصوات التي تعلو مناصرة لقضيتنا الفلسطينية. ولقضية كل لاجىء حمل الوطن بين ضلوعه ، جرحاً دامياً لن يلتئم الا بالعودة . شكراً لاحساسك المرهف.شكراً لنبيل مشاعرك. اديبنا الرقيق شكراً لمرورك الكريم ولجميل كلماتك.

  8. #8
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    العمر : 53
    المشاركات : 57
    المواضيع : 8
    الردود : 57
    المعدل اليومي : 0.01
    الأديب الجميل مازن لبابيدي :
    سعدت بشهادتك التي أعتز بها، وبتزكيتك لقصتي المتواضعة. وأشكر لك جميل مشاعرك ، وشوقك لمشاركاتي القادمة.
    سيدي شرف لي أن تنال قصتي اعجابك . مع بالغ مودتي واحترامي

  9. #9
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    العمر : 53
    المشاركات : 57
    المواضيع : 8
    الردود : 57
    المعدل اليومي : 0.01
    الأديب رشدي مصطفى الضاري:
    " كلماتك العذبة. وامنياتك الرقيقة..ومرورك البهي .. واعجابك بقصتي .. شرفني . وان تشاطرني حلم العودة ، وطرد المحتل. عودة كل الطيور الشريدة والبلابل لتنشد نشيد الحرية والاستقلال يزيدني شرفاً. اسعدني مرورك سيدي لك جل احترامي

  10. #10
    الصورة الرمزية الطنطاوي الحسيني شاعر
    في رحمة الله

    تاريخ التسجيل : Jun 2007
    المشاركات : 10,902
    المواضيع : 538
    الردود : 10902
    المعدل اليومي : 1.77

    افتراضي

    قصة غاية في الروعة والمعالجة
    شيئ منها يحفر داخل كل عربي ومسلم
    البعد والهجرة والغول التعسفي القابع على ارض الطهر
    اخي الحبيب وائل راشد انت قاص مبدع
    واجزم ستكون قريبة بعد ذلك للاحياء ان شاء الله
    تقديري وامتناني
    دمت مبدعا متألقا

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. رآها قريبة
    بواسطة اماني محمد ذيب في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 28-02-2021, 06:10 PM
  2. رحلة في ذاكرة اجزم
    بواسطة عمر الحجار في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 22
    آخر مشاركة: 19-05-2012, 05:35 PM
  3. قريبة..
    بواسطة فاطمة أولاد حمو يشو في المنتدى الحِوَارُ السِّيَاسِيُّ العَرَبِيُّ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 30-01-2008, 12:06 AM
  4. كم أنتِ قريبة من رضوان الله؟
    بواسطة حسنية تدركيت في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-08-2006, 11:57 PM
  5. لا تسخري مني
    بواسطة نسيم الصبا في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 02-08-2003, 10:30 PM