من لدن آدم عليه السلام وإلى أن تقوم الساعة .. سيبقى طريق الدعاة شامخا متوهجا بسموه .. الطريق الراقي صعداً .. والضارب أطنابه في مفاوز الابتلاء والتمحيص .. إنه درب السمو .. يصعد بأصحابه نحو المعالي .. ولا يتوارى في حضيض التراب .. منهج التسامي .. المنطلق من منهجية رصينة .. ومن أساس معرفي عريض ..
طريق أكسب الدعاة إيمانا ثابتاً لا يضعف مهما صادفته المزالق .. ومهما كان حالهم من قلة .. ومهما كانوا محاصرين في زاوية .. سطر التأريخ لهم آية ..
إنهم في جميع أحوالهم التي تقلبوا فيها لم يتزعزع لهم إيمان .. ولم تنثن لهم عزيمة ..
ولم يتسرب إلى قلوبهم ذرة من الشك والخوف في كونهم دعاة على طريق الحق ..
إن مثل هذا الإيمان العميق ضروري في زمن ضعفت فيه كلمة الحق ..
وعلى فيه نعيق الباطل .. وتبلدت فيه المفاهيم واهتزت فيه القيم واختفت من قاموسه مفردات العزة ..
فالداعية لا تدهشه الكروب والمحن .. بل يجعلها وقوداً لشحذ همة ..ورفع هامة ..
وأن يمعن في البحث عن العلاج الناجع لما آل عليه الحال من الفواجع ..
يثق بنفسه ويتوكل على ربه .. فهو حسبه ..
فاعلم أخي الداعية بأن النوازل إنما هي عادة مألوفة من حيثيات الصراع .. وهي ظاهرة من ظواهر تنافس الخلق .. فليس من المعقول أن تمضي الدعوة في طريقها بلا صعوبات ومكدرات ..
فمن واقع هذه الابتلاءات المتوالية يكسب الأفراد عملياً مفاهيم ومبادئ ما كانوا يجدونها من قراءة مجلدات قيمة أو سماع خطب رنانة ..
أيا كانت هذه الأزمة المؤلمة التي تمر بها الدعوة .. ولو بدت خالية من بارقة أمل .. تخبىء في طياتها عطايا عظيمة .. ستعود على الدعاة بفوائد تفوق التصورات .. إذا احتضنت أرواحنا تلك الأزمات ..
فالأزمات التي تصيبنا توقظ في نفوسنا قوة وإمكانات وإبداعا وهبنا إياها الخالق ..
فالداعية لا يدرك قيمة دعوته .. ولا يتذوق حلاوة معتقده .. إلا بعد أن تتعرض نفسه للشدائد ..حينئذ يكون قد بدأ يسلك سبيل أصحاب الدعوات .. وقد يطول الامتحان ..
إن لكل حقبة من التأريخ رجالها .. غير أن هناك فترات من التأريخ يكون نمط الرجال نمطا متميزا لا يتكرر .. يبرزون على منعطفات بالغة الخطورة .. يبدعون وسط مناخات تشنجية ..
ويخطون دروبا مشرقة رغم تصاعد الآلام ..
ومع كل هذا الإسهاب حول ما فات ذكره فليس كل من تعرض لمحنة قادرا على قطف ثمار النجاح اليانعة .. بل قد تكون المحنة نهاية خدمة أو وأد سيرة ..
ويتفاوت المتساقطون في المحن .. بحسب ما تغلغل في النفس من معاني هذا الدين .. و بقدر ما اتعظ من سيرة خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم ..
إن الإيمان إذا سكن القلب .. وملأ الفؤاد .. وانطوت عليه الجوانح دفع صاحبه دفعا إلى تحويل المحنة إلى منحة ..
ومن هنا يمكننا أن نقول باطمئنان .. أن الشدائد من سنن الدعوات عبر كل العصور .. فكلما ذهبت محنة نادت أختها .. لا يثبت فيها إلا الرجل الجسور ..
يقول الحق جل وعلا : (( الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) )) العنكبوت
فالقرآن يبين لنا أن ما يتعرض له أصحاب الدعوات سنة من سنن الله تعالى لا تتبدل .. وذلك للتمحيص والتطهير والتزكية ..
وإذا كانت هذه الحقيقة قد تجلت في قصص الأنبياء عليهم السلام .. فإنها اليوم تبدو جلية لا تخفى على أحد ..
لننظر في النبع الذي كان يستقي منه الجيل الرباني الأول .. والمنهج الذي تخرجوا عليه ..
فامض أيها الداعية للأمام .. فعد بالأمة إلى مجدها الأثيل .. لا تلتفت للوراء .. ولا تتطلع لغير السماء .. فدعوة الله محفوظة سائرة إن شاء الله . .
والله ولي المؤمنين .. وناصر العاملين ..
وسلام على المصلحين والحمد لله رب العالمين ..