منذ زمن طويل وهو على هذه الحال يستيقظ في الصباح على صراخ أمه العجوز ، فيرد عليها بكلمات لم تكن مفهومة ، ثم ينهض ليرتدي على عجل بنطال قصير تجتمع فيه كل الألوان ، وجاكيت قصيرة الأكمام فضفاضة ليستقوي من خلالها على عثرات الزمن - تحفة فنية ولا أروع - وحذاء يستمد تاريخ نشأته من العصور الغابرة ، يسرح شعره الأسود الخفيف ، ويركب الحافلة متوجها للمدينة ويعود عند الظهيرة وفي يده جريدة حتى اعتقد كل من كان يراه بأنه يعمل موظفا أو معلما وعند عودته للبيت تستقبله أمه بالشتائم كعادتها ، فيصرخ ماذا تريدين مني،ويلج غرفته ، ويلبس بيجامته التي لا يستهويه إلا أن يرفع سروالها حتى تصل أعلى بطنه ، ثم يتناول كرسيه الخشبي القديم ليجلس أمام البيت قبالة الشارع الممتد ، يقلب صفحات الجريدة بكل هدوء وكأنه في لقاء شاعري مع حبيبته ،هي عادة درج عليها منذ أعوام طويلة ، اعتاد الجميع أن يلقوا التحية على الأمير ويسألوه عن الأخبار والإجابة دائما واحدة ، والله يا جماعة مثل البارحة كلها قتل ودمار وخراب ... عالم كله مشاكل .
الأيام تمضي مسرعة ، والأمير على هذه الحال إلى أن رحلت والدته فتألم كثيرا لفراقها ، وأشد ما آلمه في رحيلها أنها لم ترى له زوجة ولا أولاد ..
تحمس الجيران لمفاتحة الأمير بضرورة الزواج ، وعرض عليه جاره أبو عمران أن يزوجه أحدى الفتيات فانتفض الأمير من جلسته متذمرا
- أتريد أن تزوجني تلك السمينة التي تشبه البرميل
- أنا الأمير ... تريدني بعد كل هذا الصوم أن أفطر على بصلة
- لكن يا أمير إلى متى ستبقى على هذا الحال، وهذه البنت جيدة وسمعتها كالمسك... هذا أن قبلت بك
- سأتزوج تلك الجميلة التي التقيها كل يوم في المدينة ... لو تعرف يا أبو عمران كم هي طيبة القلب لما نصحتني بهذه المعتوهة ماذا أقول يصعب الوصف ولكن اسمع سأقربها لك ممشوقة القد عيناها خضراوان كما الربيع في إطلالة نيسان وشعرها الأشقر ينساب على كتفيها كشلال جمالها أخاذ ساحرة... ساحرة يا أبو عمران ... آه لو أنك تراها ...
ردد أبو عمران لقد جن الرجل ومن هذه الفتاة التي ستوافق أن يكون الأمير زوجا لها ... هز برأسه احتمال أنها معجبة ببنطاله أو جاكيته أو لعلها معجبة بحذائه الجميل ، وفي ابتسامة لا يخلو منها الخبث توجه للأمير قائلا لماذا لا نشاهدها حتى نتأكد من صدقك...؟.
عدل الأمير من جلسته بعد أن شعر بأن كلامه قد دخل عقل أبو عمرا ن
- لا بأس .. غدا نذهب إلى المدينة وسأريك إياها وتحكم بعدها أن كانت هي أجمل أم تلك الفتاة البرميل التي عرضتها علي
- اتفق الاثنان على الرحلة وفي الصباح ركبا الحافلة صوب المدينة وعند مدخل البناء التفت الأمير إلى صديقه مبتسما
- هنا بيت مالكة فؤادي التي أحببتها، وأنا أجلس هنا كل يوم قبالة نافذتها التي تطل منها ، وما هي إلا دقائق حتى فتحت النافذة وأطلت منها فتاة رائعة الحسن والجمال نظر أبو عمران مستغربا ومستفسرا إلى الأمير كيف تعرفت عليها ...؟!!.
- تلتقي بها دائما ...؟!!.
أسئلة كثيرة بدأت بالانهمار على الأمير وهو يجيب والفرحة تعلو وجهه متفاخرا .
عند عودتهما من المدينة شاعت أخبار الأمير وحبه للشقراء ، والتقط الخبر كل من سكن الحي وتغيرت أحوال الأمير من حال إلى حال حيث بدأت الفرحة تغزو كيانه بعد أن شعر بأنه أصبح مدار اهتمام الجميع وتحديدا عندما يسألونه عن حبيبته ، والأمير يقص لهم الحكايات والمغامرات الطويلة نافشا جسمه كالطاووس حتى وصلت به الأمور أن يتحد ث لهم عن أنواع الطعام الذي تقدمه له كل يوم ، وباقات الورود ، وبأنه قد تعرف على أهلها وقد أعطى وعدا بالذهاب لخطبتها .
وشطح به الخيال كثيرا لينسج المزيد من القصص فالتقط احدهم هذه الكلمات متوجها بالسؤال للأمير
منذ زمن وأنت تقص علينا هذه الحكاية فلماذا كل هذا الانتظار ولم تتوجه لخطبتها ...؟!!.
نظر الأمير إلى الشاب وبعد حديث طويل اتفقا أن يذهبا للمدينة لخطبة الجميلة.
جلسا قبالة النافذة وبعد أن فتحت أشار الأمير للشاب... ابتسم الشاب وقال للأمير هيا لنذهب لخطبتها تردد الأمير وكلفه أن ينوب عنه في هذه المهمة الصعبة، صعد الشاب درج البناء متوجها إلى منزل الجميلة استقبله عامل المكان بابتسامة
- أهلا وسهلا ياسيدي.. نحن بالخدمة
- أشار له هذه ......
- اتفقا ثم عاد لصديقه الأمير ليزف له الخبر السعيد، لقد وافقوا يا أمير لكن مهرها غال - وكيف لا وهي جميلة ساحرة -
عند المساء وبعد أن جالا في شوارع المدينة وأسواقها ، عاد الأمير وبرفقته الشاب إلى الحي ليحضرا المهر ، وتناثر الخبر كزخات من المطر بأن الأمير سيتزوج قريبا وما هي إلا أيام ويرى الجميع زوجة الأمير... بعض النساء رددنا" الله يحيينا ويرينا" حتى نعرف صدق الأمير من كذبه .
وفي الصباح ذهب الشاب إلى المدينة بعد أن أخذ المهر من الأمير ليقدمه لأهل الجميلة، ذهل الجميع عند عودته في المساء يحمل دمية كبيرة ليقدمها للأمير.