ضربة معلم:
إبان الحرب العالمية الثانية، كانت هجرات اليهود من أوروبا إلى فلسطين في أوجها، وزادت الحركة الصهيونية من الاعتماد على الصور الفوتوغرافية التي كانت كسلاح ذي حدين؛ الحد الأول تمثل في نشر صور لضحايا من الطائفة اليهودية الذين تعرضوا للممارسات النازية، الأمر الذي جعل المجتمع الأوروبي يقع في "عقدة الذنب" تجاه هذه الطائفة، وتعزيز الفكرة لديهم بوجوب مساعدتهم تكفيراً لهذا الذنب.
أما الحد الثاني فكان تعزيز نشر صور "أرض الميعاد" الخالية من السكان لتشجيع أبناء الطائفة اليهودية للرحيل إليها. بدأ المهاجرون اليهود يتدفقون إلى فلسطين، وارتفعت وتيرة إقامة المستعمرات الصهيونية، وأمدتهم أوروبا، وخصوصاً بريطانيا، بالآلات الصناعية والزراعية الحديثة والسلاح، فأقيمت المزارع الخضراء والمباني داخل المستعمرات، وهنا أيضاً كانت للحركة الصهيونية "ضربة معلم" جديدة على صعيد التصوير الفوتوغرافي. آلاف الصور التقطها مصورون صهاينة لمزارعهم ومنشآتهم الجديدة وصدروها إلى أوروبا لدعايتهم الجديدة في إبراز قدرة المهاجرين اليهود على تحويل "الأرض اليباب" إلى جنات عدن، فكانت هذه الصور ذا أثر مزدوج وذلك بتشجيع الطائفة اليهودية للرحيل إلى فلسطين ولكسب التأييد اللازم من أوروبا، الأمر الذي لاقى صدى واسعاً في الأوساط الأوروبية الرسمية والشعبية، فكتب المندوب السامي هربرت صموئيل عام 1925: "إن المستوطنين في كل أنحاء البلاد يعملون في الأرض بتلهف وإيمان. إن المستنقعات والقفار تتحول إلى حدائق غنّاء، بلاد متخلفة تتحول إلى دول متطورة. وهؤلاء الناس الذين يقومون بهذه الأعمال جديرون بأن يحولوا العدو إلى صديق".
أما غولدا مائير فتقول في كتابها (مذكرات أبي): "وهل ازدهرت الصحراء في إسرائيل ونحن في المنفى؟ وهل غطت الأشجار جبال يهودا؟ وهل جفت المستنقعات؟ لا ! إنها صخور، صحراء، ملاريا، تريخوما، هكذا كانت البلاد قبل أن عدنا".
التصوير ممنوع:
لم يقتصر دور التصوير الفوتوغرافي على قلب الحقائق وتزوير التاريخ، بل ساهم أيضاً في تنفيذ عشرات المجازر بحق الشعب الفلسطيني. فبينما كان الانتداب البريطاني يلملم عتاده للانسحاب من فلسطين، شنت العصابات الصهيونية حملات إرهابية على المدن والقرى الفلسطينية يذبحون، وينهبون ويقصفون ويدمرون ويحرقون، عشرات الآلاف من النساء والأطفال والرجال أكلت الوحوش جثثهم في الشوارع والصحاري والأسواق، مئات الآلاف طردتهم العصابات الإرهابية الصهيونية من بيوتهم وقراهم بالقوة ليكملوا "حياتهم" في "منافٍ" جديدة. لم يواجه مجموعات الإرهاب الصهيونية إلا قلة قليلة من المقاومين الفلسطينيين الذين كانوا يواجهون المخرز بالكف، تبعهم بعد ذلك عدد من "الجيوش" العربية الذين "حاربوا" ثم أبلوا بلاءً حسناً في الانسحاب وتركوا الشعب الفلسطيني تحت رحمة الطائرات والمدافع الصهيونية، وذلك فيما بات يُعرف بـ"حرب 48"!
عشرات المجازر ارتكبت في ذلك الوقت، لا نريد أن نحول الحديث إلى ذاكرة خاصة بالنكبة، غير أن السؤال الذي يفرض نفسه، أين صور المجازر آنذاك؟ ألم تكن في العالم وكالات أنباء؟ أين صور آلاف الجثث التي نهشتها الوحوش في شوارع اللد وبيت دراس والمسمية وبرير وغيرها من مئات القرى؟ أين صور القرى الفلسطينية قبل أن تقام على أنقاضها "الكيبوتسات والمعبروت" (1)؟ أين اختفى عشرات، بل مئات، المصورين الذين كانوا يتدفقون إلى فلسطين لتصوير "عجائب الشرق والأرض المقدسة"؟ إن الحركة الصهيونية التي حرصت على نشر صور ضحايا النازية كانت تعي خطورة نشر الجرائم التي ارتكبتها في فلسطين، والأثر الذي ستتركه هذه الصور على المجتمع الغربي الذي لم يزل في أوج دعمه لها، فحرصت على تفريغ الأرض من الكاميرات وارتكبت مجازرها دون أي رادع أخلاقي، أو غيره.
يتبع