أحدث المشاركات
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 24

الموضوع: انزلاقُ ذاكرة

  1. #1
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي انزلاقُ ذاكرة

    انزلاق ذاكرة

    حضّرت "أم العبد" طعام العشاء مثلما اعتادت كلّ يوم، قبيل غزو سحابات الليل لنور النّهار، ووضعته على طبق القشّ الذي تحتفظ به كقطعة خاصة من (جهاز) عرسها، ويحتل مكانته على الطاولة الخشبيّة فوق "الجاعِد" في الغرفة التي كانت ديوان أبي العبد سابقا.
    دعت أبا العبد لتناول طعام العشاء أكثر من مرّة؛ لأنّه بات يكثر من التّحديق فيما حوله ، ولا ينتبه لها كثيرا عندما تريد محادثته .
    والأنكى من كلّ ذلك أنّ شهيّته للطّعام لم تعد كما في السّابق، حيث أصبح يعاف معظمه، فراحت تبذل جهدا في تنويع الطّعام وتشدّد على تحضير أطايب المأكولات.
    تلاحظ في الآونة الأخيرة أنّ زوجها الشيخ قد أخذ يقلّل من الكلام أيضا، وأحيانا يبدأ بخوض أحاديث دون توقف حتّى تطلب منه ذلك . وصوته الذي كان يجلجل هازّا جدران ديوانه قد بدأ يخفت.
    جلس الاثنان حول مائدتهما التي امتصّت أخشابها عصارات أحاديثهما، والتي هي أشبه ما تكون بالقرص الإلكتروني الحديث، الذي خزن ملفات قُرئت صفحاتها السّريّة والجهريّة طيلة عقود عدة، ولكن هيهات استرجاعها!
    ما إن بدأ أبو العبد البسملة حتى أتبعها بجملة أثارت دهشة أم العبد " في العرض وفي الأرض، ضربتين في الرأس بوجعوا يا "أبو السّعيد".
    بدأت تتلفّت حولها لتتأكد من خلوّ المكان، وراحت تكثر من قراءة البسملة واضعة يدها فوق رأسه؛ ظنّا منها أنّ نوبة السّخونة قد عاودته. لكنّها استبعدت ذلك بعد أن أحسّت أنّ حرارته عاديّة، وبدأت تذكّره أنّ أبا السعيد قد افتقده الله برحمته، وأنّ الخبر قد بلغهم من أحد الأقارب، الذي وصل من لبنان لزيارة فلسطين قبل مدّة ليست بقليلة.
    هي تفهم المصيبة التي حلّت بأبي السعيد، وبكثيرين بسبب التّهجير وخسارة آلاف الدونمات. ولكن أيّة مصيبة في العرض تلك التي يتحدث عنها زوجها ؟!
    توقن أم العبد أنّ عائلة أبي السّعيد عائلة ذات سمعة طيّبة، ولا يمكن لإنسان أن يمسّها بالافتراء عليها حتّى ولو كان "أبو العبد" : المختار سابقا!
    تجاهلت ما تلفّظ به، وعزت ذلك لقلّة نومه ولحالات الشّرود التي تصيبه، فقرّبت الطّعام منه والحّت عليه أن يأكل.
    التهم لقمتين وحدّق في الطّعام، وأعاد جملته على مسامعها، فأيقنت جدّيّة الأمر، وانتفضت لتغلق باب الدّيوان الذي يُسمع صرير "رزّاته" العالي معلنا لأولادهما أنّ وقت نوم الشّيخين قد حان. في هذا اليوم كان الإعلان قبل الوقت المعتاد.
    اتّخذت مجلسها مكان مائدة الطّعام التي أزاحتها جانبا، وحدّقت في وجه أبي العبد سائلة إيّاه:
    هل تقصد أبا السّعيد الشّريف ذا الحسب والنّسب، صديق طفولتك وشبابك يا أبا العبد؟!...
    "في العرض وفي الأرض – ضربتين في الراس بوجعوا يا أبو السعيد".
    هزّت أم العبد كتفه لتتأكّد من صحوته فاحتجّ صارخا:
    لقد آذيت كتفي، اتركيني وأكملي طعامك. فرفضت وأصرّت أن يجيبها وأن يخبرها قصّة أبي السعيد.
    أمسك سبحته وبدأ يحرّك حباتّها بغضب وبسرعة، وأكمل حديثه :
    "آه يا أخي أبو السعيد". سأجد لك حلّا لمشكلة ابنتك (صبريّة) وأحمي سمعتك وكرامتك ، مع أني كنت أطمع بمصاهرتك وتزويج صبريّة لابني "العبد" بعد بلوغهما.
    أحسّت أم العبد بغصّة في حلقها وكادت تختنق لولا أن تداركت الوضع بجرعة ماء من الجرّة القريبة وصاحت:
    صبريّة! ... ماذا فعلت لتقول عنها هكذا؟!.
    لم يعرها اهتماما وأكمل: صبريّة فتاة القرية الجميلة التي خرجت عصر أحد الأيّام ، وغابت شمس ذلك النّهار ولم تعد.
    خرج رجال القرية يبحثون عنها فأخبرهم أحد الرعاة أنّه رآها تدخل المغارة القريبة من عين الماء، وكانت تمشي على غير هدى.. وشاع أنّ الضّبع قد أستجرّها إلى المغارة، فقرّر الشّبان دخول المغارة إلّا انّ خالتها تحدّتهم جميعا وقالت:
    أنا سوف أدخل وأقتل الضّبع. وطلبت منهم الابتعاد قليلا أو الرّجوع للقرية؛ لأنّ الأمر يتطلّب بعض الوقت للاحتيال على الضّبع!
    دخلت المغارة، وبعد فترة قصيرة خرجت صبريّة، والدّم يلطّخ ملابسها بعد أن جرحت للتخلّص من تأثير الضّبع المخدّر لحواسّها وتعود الى صحوتها، ولا تعيش طيلة عمرها مضبوعة! وشهدت القرية للخالة بشجاعتها وجرأتها.
    بدأ صوت أبي العبد يعلو، وكذلك صدره أخذ يعلو وينخفض صائحا: "هيك عملت يا صبريّة!
    صبريّة التي خدعها أحد شبّان القرية وراودها عن نفسها حتّى أوقعها، وصارت تقلّل من الذّهاب مع البنات إلى العين، حتى أجبرتها أمّها على الاعتراف لها بحالها بعد أن لاحظت استدارة بطنها وانتفاخها، فجنّ جنونها؛لأنها سوف تُطلّق، وابنتها سوف تُذبح اذا ما اكتشف أبوها أمرها، وهرعت تستدعي أختها طالبة مشورتها بالحلّ السّاتر!
    يومها جاءتني أختها طارقة باب مضافتي بعد خلوّها من مرتاديها ، ووقفت في الباب مستنجدة: "طَنيبِة عليك يا مختار" .
    طلبت منها أن تدخل وتستريح وتفرغ جعبة غضبها وقلقها.
    جلست تحدثني وتستحلفني بالله الّا ابوح بالسّر – وكيف أبوح بسرّ أبي السعيد؟! -وطلبت مني أن أجبر الشاب على الزّواج من صبريّة وأن أسكنهما في مكان بعيد، في إحدى مزارعي بحجّة أنّهما يعملان في فلاحة الأرض.
    خلال جلساتي وأبي السّعيد لاقناعه بتزويج ابنته، وردت أخبار أنّ عساكر "الهجانا" يهاجمون القرى، وأنّ هناك مواجهات مع الثّوار، فأجّلنا أمر صبريّة" . حان وقت ولادتها ولما جاءها المخاض، أرسلتها خالتها التي كانت تراقبها وتأمرها بربط زنّار على بطنها، ولبس الملابس الفضفاضة، إلى مغارة الضّبع وأخبرتها أنّها ستلحق بها لتساعدها.. ذهبت صبريّة إلى المغارة قبل أن تحتلّ جحافل الليل مروج القرية ثمّ تبعتها الخالة، التي أبلغت القوم أنّها ستخلّص صبريّة من الضّبع.
    وضعت مولودها والخالة تدعو أن يموت الاثنان؛ لتعلن للملأ أنّ الضّبع كان الأقوى، ولكن هيهات !
    ها هو المولود يصرخ معلنا مجيئه للحياة، فتطلب من صبريّة أن تخرج بعد أن صبغت جزءا من ثوبها بدمها، مقنعة إيّاها أنّ عارها هكذا يُمحى.
    ازداد عويل الوليد بعد خروج أمّه، والخالة تذرع المغارة جيئة وذهابا ثمّ انكبّت على الأرض تحفرها بأظفارها، وكأنّ أحدا يسابقها، وتوقف حفرها لتضع يدها على فم المولود لتسكت بكاءه ثمّ تضعه داخل الحفرة جانب المغارة، وتنفض التّراب عن ملابسها قائلة:
    تخلّصنا من عارك يا صبريّة! وسيجبر المختار من دنّس شرفك أن يتزوجك بعد تحقيق الانتصار على العساكر.
    وعادت إليّ الخالة طالبة مني التّعجيل في الأمر بعد أن دفنت في صدري سرّ ما فعلت!
    وتصيح به أمّ العبد يا ويلتاه!
    ماذا أصابك يا"أبو العبد". أنت لم تغتب أحدا في حياتك ولم تسئ إلى أحد، فكيف تسيء الآن إلى سمعة صاحبنا- رحمه الله- وسمعة ابنته؟!
    لكنّ أذنيّ أبي العبد لا تريدان أن تسمعا. ويواصل تحديق عينيه وتحريك شفتيه " في العرض وفي الأرض – ضربتين بالراس بوجعوا يا "ابو السعيد".
    وبعد أن أقنعتُ أبا السعيد بتزويج صبريّة، وأثناء التّحضيرات لعقد قران الشّاب الذي هدّدته بالقتل - اذا لم يتزوجها- هجم اليهود على القرية وأخرجنا تحت قصف المدافع!
    ابعثي بأحد لاستدعاء أبي السّعيد إلى المضافة، فانّي لم أره منذ مدّة.
    أريد أن أخطّط وإيّاه ماذا سنفعل إذا ما هاجمنا اليهود مثلما هاجموا غيرنا .
    سكت قليلا وقال: هيّا بنّا نذهب إلى بيتنا . ما الذي جاء بي إلى هنا ؟
    عند ذلك فقط تأكدت "أم العبد" أنّ شريك حياتها ليس بخير، فهرعت تستنجد بأولادها لاحضار الطّبيب مولولة:
    يا لمصيبتنا! ما الذي أصاب المختار "أبو العبد"؟!
    يومها قرّر الطّبيب أنّ ابا العبد بدأ يفقد تدريجيا زمام السّيطرة على عقال ذاكرته .
    وصاحت أم العبد :
    الضربتان الموجعتان الآن هما في رأسي ورأسك يا أبا العبد !
    التعديل الأخير تم بواسطة كاملة بدارنه ; 21-07-2013 الساعة 12:06 AM سبب آخر: تغيير اسم إحدى الشّخصيّات

  2. #2
    الصورة الرمزية ابن الدين علي قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2006
    الدولة : الجزائر
    المشاركات : 557
    المواضيع : 112
    الردود : 557
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    "في العرض وفي الارض – ضربتين في الراس بوجعوا يا أبو السعيد".

    القصة محزنة و مليئة بالهموم . حين تُنتهك الأرض و يُنتهك معها العرض ... صح ضربتين في الراس بوجعو ....

  3. #3
    الصورة الرمزية وفاء شوكت خضر أديبة وقاصة
    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : موطن الحزن والفقد
    المشاركات : 9,734
    المواضيع : 296
    الردود : 9734
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    ليست فقط الفكرة جميلة ، ولكن ايضا السرد الذي كان مشوقا ، ومسترسلا بأسلوب مباشر تنكرت فيه الرمزية بثوب الوضوح ، لكن يستطيع المتلقي فهم ما ارادت الكاتبة الوصول إليه ..

    شكرا على متعة القراءة التي منحيها لنا ..
    سأكون في القرب كلما سنح جديد.
    //عندما تشتد المواقف الأشداء هم المستمرون//

  4. #4
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي

    شكرا أخي ابن الدين علي ، فالقراء الأفاضل أمثالك هم الهدية القيّمة التي يتلقاها الكاتب مثلما ورد على لسان الأديب الكبير " حنا مينة" .
    تحياتي

  5. #5
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي

    جميل توقيعك حضرة الأديبة المميزة . فالزمن زمن المواقف الشّديدة ، وما احوجنا الى الأشدّاء !
    شكرا لمرورك وتعليقك .
    دمت ودامت أفكارك النيّرات .
    تحياتي

  6. #6
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.69

    افتراضي

    كيف فاتتني هذه الجميلة لأعثر عليها اليوم تحت ركام الصفحات

    أرفعها لتحظى بقراءة مبدعينا ونقدهم

    شكرا لبديعة الحرف كاملة بدارنة لنص يستعيد معاناة أهلنا في سنوات ترسيخ الاحتلال الصهيوني لوجوده في فلسطين قبل حمبته المسعورة التي أدرت لتهجيرهم

    نحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  7. #7
    الصورة الرمزية نداء غريب صبري شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jul 2010
    الدولة : الشام
    المشاركات : 19,096
    المواضيع : 123
    الردود : 19096
    المعدل اليومي : 3.79

    افتراضي

    لكنني فهمت أنه تذكر جيدا ولو تنزلق ذاكرته
    إنها الزوجة الصالحة والجارة والصديقة الصالحة تستر العيوب ولا تكشف الأسرار

    شكرا لك أختي كالمة بدارنة
    قصة رائعة

    بوركت

  8. #8
    الصورة الرمزية عبد المجيد برزاني أديب
    تاريخ التسجيل : Dec 2010
    الدولة : فاس المغرب
    المشاركات : 607
    المواضيع : 63
    الردود : 607
    المعدل اليومي : 0.12

    افتراضي

    العرض والأرض ...
    تلك فقط بعض الضربات التي ما فتئت تقرع رأس العربي وتعيد النكسة بعد النكسة.
    أفضل لها أن تنزلق تلك الذاكرة
    قصتك يا كاملة، كاملة بناء وسردا ولغة.
    تحاياي وكل التقدير.

  9. #9
    الصورة الرمزية نافع مرعي بوظو شاعر
    تاريخ التسجيل : Dec 2010
    الدولة : دبي
    المشاركات : 691
    المواضيع : 62
    الردود : 691
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    الأستاذة كاملة البدارنة المحترمة :
    قصة جميلة جداً و أسلوب رائع يذكرني بأساليب عمداء الأدب العربي رغم ما شاب القصة من أخطاء بسيطة كان بالإمكان تجاوزها من كاتبة مرموقة كحضرتك .
    دمت بخير و سعادة .
    تحيتي
    أنا طلاَّعُ مجْدٍ للنُّجومِ ولا أخشى لمن تحتَ الغيومِ

  10. #10
    الصورة الرمزية ناصر أبو الحارث شاعر
    تاريخ التسجيل : Aug 2010
    الدولة : حيث راية الإسلام
    المشاركات : 336
    المواضيع : 5
    الردود : 336
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الستر ثم الستر
    هذا العنوان الأول لما قرأت في النص
    الذاكرة المعرضة دائما للتسلل من قبضة وعينا هوالمضمون القوي
    والزوجة الصالحة للصديق الصدوق هذه منارة القصة

    لا أمل قراءة روائعك أستاذة كاملة بدارنة
    ولا أمل التعلم منك

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. قراءة ثقافيّة في قصّة: انزلاق ذاكرة
    بواسطة مُنتظر السوادي في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 14-02-2013, 01:10 AM
  2. انزلاق ذاكرة ... كاملة بدارنة \ دعوة للنقد
    بواسطة رفعت زيتون في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 29-08-2012, 02:21 PM
  3. ذاكرة مطر .. ( محاولتي الأولى )
    بواسطة الضبابية في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 05-11-2003, 06:29 AM
  4. ذاكرة من وحي النسيم!!
    بواسطة نسيم الأنس في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 30-10-2003, 04:24 AM
  5. اغتيال ذاكرة
    بواسطة عبدالسلام العطاري في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 30-06-2003, 08:00 PM