أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: تامزا وأحلام مراهقة

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Aug 2010
    الدولة : مقيمة ببلدى السودان
    المشاركات : 26
    المواضيع : 13
    الردود : 26
    المعدل اليومي : 0.01

    تامزا وأحلام مراهقة

    تامزا وأحلام مراهقة

    مات الكل، الماشية، نمل الأرض حتى الذباب مات. وصلت مع العتمة الأولى، معظم الجثث كانت قرب البئر المهجور، ملتصقة بعضها ببعض وكأنهم يبحثون عن الاحتماء.
    كنت حافية القدمين ،أتنفس بصعوبة وأنا أقلب الجثث صارخة بجنون. العرق تفجر من جبيني بقوة، مرارة كثيفة كست حلقي، عطش غريب وجفاف على اللسان، صرخت. لاأحد بتامزا أجاب .
    عند الفجر الأول كانوا جميعهم يسعون ، غادرتهم فجرا مع ابقارى للمرعى
    كيف أصبحت يا جدي
    وجدته على مخلاتيه يداعب حبات مسبحته، رايته بصعوبة لأن الظلام لم ينكشف بعد
    احذري يا زها يمر النهار سيكون قائظا
    من كثرة الترحال كان يعرف كل شيء، لقد كنا قبيلة رحل نتنقل من مكان إلى مكان بحثا عن الزاد ومنه تعلمت
    - اعلم ياجدى لقد رأيت شمس غروب البارحة محاطة بالون الأخضر
    - جنوبا المرعى أوفر
    وانطلقت جنوبا ، وحدي ، مخالفة البقية اللذين آثروا المراعى القريبة من البيوت ، وكنت اعلم يقينا أن دعواته تشيعني . ولأن تامزا تقع في مكان بعيد ، ولا احد يمر بها صدفة ، لذا نادرا ما نرى غريبا يمر بيننا ، نسمع عما يدور من اقتتال كما تسمع حكايات جدي عن الغول وفاطمة السمحة ، نعيش هدوءا مريح ، رغم أننا كنا نعانى من العطش في مواسم كثيرة نضطر خلالها لقطع مسافات طوال لجلب الماء .
    كنت اعرف الطرق أكثر من غيري، توغلت بالماشية جنوبا مجتازة العراء الرملي نحو المراعى البعيدة.
    وعندما أصبحت قامتي ترى إلا ربعا على الأرض لمحت طيور ضخمة بلون ابيض يشقه خط مموج تطير مسرعة بحناجر قوية وغناء جماعي مخيف ، رايتها من على البعد ترسل لهبا من بطنها نحو الأرض ، جدي يقول دائما في الصحراء لا دليل سوى القلب ، وعلى قلبي حطّ فزع لم أرى له مثيل ، تركت الماشية ترعى وجريت بقوة نحو المضارب ، لم أقف لالتقاط انفاسى كنت مدفوعة بالخوف .
    وصلت قبل العتمة ، وقفت على مرتفع عال يفصلني عن القرية مسافة مائة خطوة، ورأيت الكارثة، اللهب موّج الروية وحجبها، الرماد يتطاير متناثرا نحو الفضاء ولا شيء غير الحريق ورائحة حياة كانت، الكارثة اكبر من العويل. أندهش لأني وقتها لم افقد عقلي وأهيم في الصحراء مع أنه سيكون طبيعيا إن كان ، لكنى بقيت مع اهلى محتمية بجثثهم ومتكرفسة على نفسي ، نفد كل الدمع حتى المدخر ، الصمت ولا سواه ، وأنا أتتبع خيوط الدخان المتجهة إلى أعلى ، سكون عميق ابتلع تامزا .
    غفوت .
    عامان متتاليان لم تقو فيهما شفتاي على الهمس حتى ، كان معي طيلة العامين ، يخدمني ، له قامة متوسطة وبشرة سمراء لامعة وعينان نافذتان ، بعد العامين نطقت لكنى ما زلت غارقة في الحنين ، دفنوا الجثث في مقابر جماعية متلاصقة ، أخفى معالمها الزحف الصحراوي بعد زمن .
    في ذلك الصباح الموجع خسرت أهلي وأرضى وربحته هو طبيبا عطوفا، كان وقتها يعمل في إقناع المنشقين للإقلاع عن الحرب وتسليم أسلحتهم، يطوف القرى ويحلم بإشاعة السلام .
    البداية بعيدة حتى أنها تختلط في ذهني وفى كل مرة أجملها وارويها لنفسي ، هو أول من رايته عندما أفقت من غيبوبتي تلك ، رايته عن قرب ، اعطانى حقنة بالوريد ، العرق يفصد جسدي ، مسحه عن جبيني ، بيديه خشونة ما ، نقط على لساني بعض قطرات من الماء ، نظرت إليه بعينين غير مستقرتين ، كان يعمل على رأس المجموعة التي تعمل على نزع السلاح وإعادة الدمج ، ذلك القرب على مدى شهور جعلني أعرفه بعمق ، نشأ بيننا حنان خاص لم اكتشفه إلا بعد زمن ، كنت متعبة ومستنفدة ، أحن الحنين ظهري وجعلني أسير منكفئة وكأني على وشك السقوط . كان مع الجميع لمعالجة مخلفات الحروب النفسية وكنت مريضة بالحزن ، أخبرني أنه حملني حتى السيارة بعد أن اكتشف أحدهم أنى أتنفس ببطء ، غادرنا بعد أن دفنوا أهلي ، سرنا النهار كله وجزء من الليل ، وصلنا مخيماتهم مع الهزيع الأخير ، كانت على الشريط الحدودي بين كادقلي وأعالي النيل ، طيلة الشهر الأول كنت في غيبوبة أفق منها على حمى متأججة كان يحاول تقليل حدتها بلف جسدي بقماش مبلل ، يقلبني برفق وكأن جلدي سينسلخ على كفه يديه، أتقيأ باستمرار حتى أنى صرت خفيفة يحملني نسيم الصباح ، تدخل روحي في نوبات هذيان أرى فيها أهلي بوضوح ودماء جافة تحيط بهم ، ذهب بىّ إلى مكان بعيد لعلاجي ، عشت بأرض الغير سنينا ، لم أعرف أحدا غيره ، الحنين شغلني عما عداه ، ولأن أيام صمتي وهبتني حبا ما عدت احتمله ، حولني الحنين إلى الماضي إلى ظل ذاكرة ، سرطان الحزن نهشني طيلة سنين بعده عنىّ رغم أنى الآن اكتب هذا البوح وأنا جالسة في فضاء على سطح بيت عالي بمدينة نيالا يطلّ مباشرة على وادي عميق مزدان بالخضرة على الدوام تحفه جبال خجولة الطول ، فردوس أرضى ، مضى على نهاية الحرب سنوات وسنوات وبدأ الكل يتنفس هواء السلام ، لكن كل ذلك لم يجد مع حلم ظل ملازما لىّ . كنت أرى اهلى جميعا متوشحين ملاءات سوداء تغطى أجسادهم يتخبطون يقعون أرضا ، جدي تنزف من أصابع قدمه دماء كثيرة ، تصير بحيرة لها رائحة كأنها رائحة المطر وكنت أسبح فيها غاسلة شعري بدمائه ، أبكى بلا صوت ، اصرخ فلا يستجيب ، هذا الحلم ظل لصيقا بىّ وكان سببا رئيسا في استحالة شعري للبياض ، الحمى فتت عظامي وأنا أسيرة ذلك اليوم البعيد بجثثهم ، دمائهم الجافة ورائحة الحريق ، الريح وهى تحمل وجعي ، كان الألم أكبر من التسامح . لكن طبيبي عاد بعد أن حقق حلمه . كلمني بصوت عميق روؤف أيقظ كل وجع الفقد ، قال
    - غدا نزور قبور أهلك
    وذهبت إلى تامزا بحنين الدنيا
    وصلت ليلا، ورأيت القمر طالا، ساحرا، واعد وكنت أبتسم رغم شيخوخة الأمل


    لك يا حبيبتي دارفور سلامي

  2. #2
    الصورة الرمزية اماني محمد ذيب قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Jul 2010
    الدولة : الاردن
    العمر : 36
    المشاركات : 95
    المواضيع : 6
    الردود : 95
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    المبدعة "اميمة"
    عشت مع القصة كل لحظاتها
    الخوف .. الفزع .. الحزن .. الحنين
    والامل..
    قصة رائعة على الرغم من الحزن الذي يتخللها

    سيدتي تقبلي مروري
    ودمت متميزة
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية محمد ذيب سليمان مشرف عام
    شاعر

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 19,264
    المواضيع : 522
    الردود : 19264
    المعدل اليومي : 3.69

    افتراضي

    الرائعة أميمة
    سنوات الخلاص من حلم مخيف يعاود الذكرة كل حين
    أراه وقد توزع على بقاع كثيرة من الأرض
    برغم كل الوجع وبالرغم من خصوصية الحكاية بمنطقة معينة
    إلا أنني أقرؤها هناك في فلسطين والعراق والصومال
    وفي كشمير والبوسنة والهرسك وفي الشيشان
    وفي كل مكان فيه مسلمون .. ولا أدري لماذا ..
    أخيتي
    رغم الألم .. لا بد من أمل يحمل عن كاهلنا بعضه حتى نستطيع
    إكمال دورة الحياة
    لا بد من أمل .. وأراه بإذن الله فريب
    شكرا لك على إبداع صادق قد
    مته على صورة حكاية

  4. #4
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Aug 2010
    الدولة : مقيمة ببلدى السودان
    المشاركات : 26
    المواضيع : 13
    الردود : 26
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    لكم ودى وأنتم تثلجون صدرا أتعبه السير تحت الوجع ، لكم وجدت الراحة عندكم لكم خالص ودي

  5. #5
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.67

    افتراضي

    تامزا .. مقبرة احتوت أهلها في قبور جماعية بعد أن احرقت بهم الطائرات الأرض
    مشهد قصّي موجع رسمته الكاتبة ببراعة وتفصيل مدهشين أظهرا البيئة الإفريقية وصورا الاقتتال الطائفي ، والإرادة الخارجية المتغلغلة في تفاصيله
    السرد كان شائقا والتوصيف الحدثي والبيئي متمكنا جعل للنص بعدا حيويا مدهشا بقوته، حتى لكأن القارئ يعيشه

    لحبيبتنا دارفور السلام والعزة
    ولكل شبر من أرض العزة الإسمية والعربية يستهدفونه بشرورهم

    دمت بخير أيتها الرائعة

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  6. #6
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي

    وبدأ الكل يتنفس هواء السلام ، لكن كل ذلك لم يجد مع حلم ظل ملازما لىّ . كنت أرى اهلى جميعا متوشحين ملاءات سوداء تغطى أجسادهم يتخبطون يقعون أرضا ، جدي تنزف من أصابع قدمه دماء كثيرة ، تصير بحيرة لها رائحة كأنها رائحة المطر وكنت أسبح فيها غاسلة شعري بدمائه ، أبكى بلا صوت ، اصرخ فلا يستجيب
    لا يمكن لصور الماضي الموصوف أن تمحى رغم هواء السّلام الجديد
    سرد بأسلوب روائيّ جاذب رغم أسى المشاهد المصوّرة بريشة كاتبة بارعة احتاجت فقط أن تهتمّ باللّغة أكثر
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  7. #7
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.98

    افتراضي

    بسرد رشيق واسلوب مائز وحبكة مؤلمة التصقت الصور بذاكرتنا
    فكيف ستتلاشى الملامح من ذاكرة من التقطوها
    وصف دقيق بيراع متمكن
    دمت بكل الخير
    مودتي وتقديري

  8. #8
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,234
    المواضيع : 318
    الردود : 21234
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    سرد جميل خرج من قلب ملتاع فدخل القلوب وترك أثرا عميقا في النفوس
    عشنا القصة الموجعة حد القهر بسردها الشائق والأداء القصي المتميز
    والوصف الدقيق أدخل المتلقي جو النص ليعيشه بانفعالاته..
    ولندعو لدارفور بالأمن والإستقرار
    وكل بلاد المسلمين
    تحياتي وودي.

  9. #9
    الصورة الرمزية نداء غريب صبري شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jul 2010
    الدولة : الشام
    المشاركات : 19,096
    المواضيع : 123
    الردود : 19096
    المعدل اليومي : 3.78

    افتراضي

    قصة إفريقية بامتياز
    التفاصيل تجعل القارئ يتصور نفسه أمام مشاهد مصورة
    والأسلوب جميل ومشوق

    شكرا لك أختي

    بوركت
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. عَفواً .. مُراهقة تكتب مُذكّراتها
    بواسطة أحمد فؤاد في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 33
    آخر مشاركة: 23-11-2023, 07:30 PM
  2. أسعد الروابة وأحلام الصبا ( من باب المناوشة )
    بواسطة محمود الديدامونى في المنتدى أَدَبُ العَامِيَّة العَرَبِيَّةِ
    مشاركات: 18
    آخر مشاركة: 30-06-2007, 09:54 PM
  3. د ( حسين علي محمد وأحلام البنت الحلوة ( رؤية نقدية بقلم / مجدي محمود جعفر )
    بواسطة مجدي محمود جعفر في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 27-05-2007, 12:15 PM
  4. أحمق ... وأحلام صغيرة
    بواسطة مهند صلاحات في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 12-11-2005, 06:18 AM
  5. أنت والدنيا وأحلام الصبا
    بواسطة عبدالقادر النهاري في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 09-01-2005, 10:30 PM