1
قالوا لي : أن أحدا سيذهب في سفرٍ إلى البلاد ! وفي البلاد دار ٌّ قوراء وكأس صهباء وأم ٌ شلا َّء , كان لها بولدها ساعد ٌ فشط َّ به السفر ! فحطَّ منها الساعد وأغرب عنها المساعد !
كان لها بولدها عينين تبصر بهما نعيم الدنيا وملذات الحياة وطيب العيش , فنأت به الديار وساخت به الأرض ! فابيضَّ منها ماكان مسودا , ورك َّ منها ماكان صلبا , وبـُعدَ عنها ماكان قريبا , وتبدلت صورُ الأشياء , فإذا بالزهور الراويات ِ تذبل ! وإذا بالنسيم العليل يستأذب , وإذا بالحمام الشجيِّ يستوحش !
فجد َّت به صبوةُ الذكرى , وشبت به لواعجُ الحنين , وخفقت إليه أطيافُ المساء ! فإذا بالعجوز ماثلة بين يديه ضعيفة ٌ فلاتقوى , ظامئة ٌ فلاتروى : بني َّ بني َّ فلا يجب !
كان الوقت متأخرا فماذا يبعث لأمه من أرض الغربة , وهو لايملك لفقره دفعا , ولايملك لحاله سلوة ! فقرر أن يكتب ! علَّ في الكتابة مايشفي العليل ويروى الغليل !
لاخيل َ عندك تهديها ولامال ُ , فليسعد ِ النطقَ إن لم يسعد ِ الحال ُ
ولكم يتمنى المرء أن لا يكبت من مشاعره شيئا ولو بالبكاء ! فتتشظى الأمنيات ! ويلوذ طائر الحديث بالفرار ! وتحتبس الدموع في العروق ! ويطول به الليل . وإن في الكتابة لمتنفـَّس عن مايعانيه من ضيق وكرب !
ماذا أكتب لأمي ؟! وماذا أقول لها ؟
سلام الله عليك يا أمي ! يامهد الحنان ويا موطن الأمان !
سلام الله عليك ! أما الحال ؟! فلا حال إلا بك , ولاشغل إلا عليك , ولا شوق إلا إليك ! كلما مر بي العمر وكثرت علي َّ المسؤوليات , تذكرت ُ أمي ! وجلست ُ أفكر ُ في نفسي وأقول : كيف استطاعت أمي أن تربينا أحسن تربية , وترعانا خير رعاية في ظل ظروف قاسية ومتعبة ! ونحن أسرة ٌ كبيرة , ومطالبنا كثيرة , واحتياجاتنا كثيرة , ومصاريفنا كثيرة ؟!!! فعلمت ُ أن الله وحده كان معك معينا ومؤيدا !
إن كل نبضة قلب ٍ مني تشدو باسمك , وكل دفقة دم ٍ في عروقي تصرخ باسمك ! أنت معي في حسي وفي خاطري كلما قمت ُ أو قعدت !
أنت في صحوي وفي نومي كلما نمت ُ أو نهضت ُ !
أمي الحبيبة ! أحاول وأنا هنا في الغربة وأنت هناك في القرية أن أجلس مثل جلستك ! وأن أشير بيدي مثل إشارتك ! أن أمشي مثل مشيتك ! قلدت ُ كل شيئ ٍ فيك هنا إلا شيئا واحدا لم أستطع أن أقلده ُ ! لم أستطع أن أقلـِّد َ ابتسامة عينيك ! إن عينيك تبتسمان ابتسامة البرق في متون الغمامة ! وابتسامة الفجر في عيون الحمامة !
أنت أمي ! ملء الدنيا وملء السمع وملء البصر ! لقد أعطيتيني الكثير َ , ومنعتك ِ القليل َ فسامحيني ! لقد وهبتيني الجزيل , وحرمتك ِ اليسير َ فسامحيني ! ليت لي السماء فأنثر نجومها بين يديك ِ ! وليت لي الدنيا فأطرح زهورها وورودها تحت قدميك ِ !
لكن َّ العقبة َ كؤود , والناقد َ بصير ! فماذا عساي أن أقول ؟! وماذا عساي أن أقدم لك ِ ؟!
ألف شكر لك ِ على صبرك ِ .. ألف شكر لك على تضحيتك ِ !
2
لكنّ الفتى بائر الحظ , عاثر الجد لما قارن جلال الرفعة في مخاطبة أمه الشغوف وقصور الكلمة في نفسه الطموح , تواثب على أوراقه فقطعها ! وكأنه لم ير في ماقال شيئا من دمعه فيهدا , وبعضا من نزفه فيرقى ! وتأتي على المرء ساعات يتردد الكلام في الصدر فمايدري مايتخير للمعنى الرفيع من لفظ فصيح ٍ فيكسوه به ! ومن مثل ٍ سائر ٍ أو أثر ٍ بالغ ٍ فيتمثل به ويتواضع له ! ومايدري المسكين أن الأم إنما تشتم ُّ عرقَ ولدها في مكتوبه وإن قل ! وتخلط دمعها بسواد مداده ولو كان مافي الكتاب إلا خربشة طفل ! ومايعني قلب الثكلى ذكرُ المعلقات وسرد الأحداث ونثر الأخبار وحشد الصور ! إن الذي يشغل بالها أن تعرف أأنت جائع ٌ أم شابع ؟! أأنت عاطش أم راوي ؟! أأنت سليم ٌ أم معافى ؟! فتفرش لك من حجرها غطاءا , ومن صدرها غذاءا , ومن دمعها رواءا ! وتبيت ُ عندها على خير حال !
3
أيقن الفتى أن الصدق في الحديث إذا كان مشفوعا بحرارة الوجدان وطلاقة اللسان ومضمنا شفاعات الماضي من ذكر جميلة ٍ تلطف بها البال وسكنت إليها النفس ! فقال في نفسه وهو يعمل فكره فيما يبث ُّ لأمه ِ من لواعج وحنين : لاشيئ غير ذكريات الطفولة ! لعلي أتخـيــَّر ُ منها مايوافق قلب أمي فتأنس ! فعمد إلى النوافذ ففتحها وبدأ الهواء البارد يجوب أرجاء الغرفة , وإلى الدرج فأخرج أوراقا أخرى ووضع سنان قلمه وراح يتصفح ذاكرته !
أمي ! هل تذكرين يوم كنا في بيت خالي وأنا صغير لم أتجاوز العشر السنوات بعد ! كانت خالتي تجلس قبالتك تماما وكنت ُ أقف أمامك وأنت تبتسمين قائلة : يابني إن لك هيئة ً تدل ُّ العين مباشرة على شخصيتك المهيبة ! ففيك الحزم وبك العزم , وكأني بك مديرا كبيرا يحف به الموظفون من كل مكان ! أذكر أني قلت ُ لك حينها : أنا ياأمي متى كنت كذلك فإني سأشتري لك ذهبا كثيرا ! ولا أدري لم لم يخطر ببالي شيئا آخر ! ثم لما استبدت به خيالاتُ ذلك الموقف ! أحس ثقلا في صدره وتقطعا في نفسه ! فتوقف عن الكتابة وأمسك عنه الخاطر ! أهذا الذي ذكرته لأمي سيدخل السرور إليها أم سيخرج روحها منها ؟!!
لقد مر على ذلك الموقف دهرا , فتبدل الحال وإذا بك في أرض غير الأرض ومكان غير المكان وشعور غير الشعور ! كنت َ في ذلك اليوم صغيرا ربما كنت في الصف الرابع الابتدائي لكنك اليوم في الأول الثانوي وأمامك فرصة للعيش الكريم إذا استطعت الالتحاق بمعهد المعلمين ! فغدا إذا تخرجت تصبح مدرسا وسيكون لك راتبا تستطيع من خلاله أن تصنع شيئا ! غير أن المعاهد ليست كسابق عهدها , فهي الآن في سنتها الأخيرة والناس على أبوابها كالطوفان والجراد والقمل والضفادع ! كان من أنفة الناس أن المعاهد لايدخلها إلا الفقراء والمرضى والمعتوهين , أما اليوم فلايقدر على التسجيل بها إلا أبناء الذوات وهم على وجل ! كان أبي ثريا من الأثرياء لكنه كان يعيش في برجه العاجي ينعم بشهريار وأحاديثها حتى الصباح ! فما كان لي إلا أن ألجأ إلى ذهب أمي ! ذهب أمي ! ذهب أمي ! لما انفصلت أمي عن أبي ماكان لها إلابيتا صغيرا وقطعة أرض ٍ صغيرة وبعضا من الزينة تسد به أعين الحسدة والشامتين ! أماكنت ُ قد وعدتها وأنا صغير بأن أكسوها ذهبا ؟! فمابالي اليوم واقف ٌ كالجندي على رأسها ؟!
- يابني أنا لم أدخر هذا الذهب إلا لمثل هذا اليوم ! خذه وأكمل تعليمك ! وبدأت الشمس تشرق من جديد وأخذت العصافير تشدو بأعذب مامر على الأسماع ! وطيلة عامين لم يكن لي من مصروف غير ذهب أمي ! كلما تعنت مدير المعهد بطلب , قفزت إلى أمي وأخذت ُ أنحت ُ من ذهبها يوما بعد يوم حتى حصلت ُ على وظيفة ٍ ! واجتهدت ُ أن أشتري ولو سبيكة ً واحدة ً لأقول لأمي وأنا أناطح برأسي الجوزاء : ها أنا قد حققت ُ أمنيتي ! لكن الطيش كان قد أعماني ! وإن الهوى ليعمي ويصم ! كان الراتب على قلته لايفي بالغرض ولايأتي بالحاجة ! فآثرت ُ مطالب نفسي واستيقظت مع أول راتب لي احلاميَ الفقيرة ! وكلما أنجزت ُ شيئا لاح لي منها جانب ٌ آخر ! الزوجة والمسكن والجامعة والدراسة العليا والسيارة والغربة ولاأدري متى سأقضي أمي ؟! ومتى ستقنع أحلامي ؟!! فهل يجدر بي أن أذكر أمي بموقف ٍ كهذا ؟!! فثار الغضب في رأسه , وقطـَّع الورقة ثانية ً , وأطفأ من نفسه فتيل المصباح ! وأخذت الغرفة تحتشر في بعضها ! ورمى القلم في الهواء .
4
كانت الساعة الرملية تهرول كأنها تتفقد عزيزا ! وجاء الرجل المسافر لأخذ الرسالة , وأخذت ُ أراقب نفسي وأنا أسلم قطعا ً مني إليه , وأخذت الدهشة تتشقق فوق رأسي وتعقد ما اتفق لها من ضباب على عيني ! كتاب ٌبلاموضوع ! لكن من أين جاء كل هذا الكلام ؟! هذا الذي قلته خبر ٌ من الماضي وهذا الذي قلبته صفحة من التاريخ ! لقد حدثت أمي إذن عن الماضي , فأين حديث الأربعين عاما ؟ ضربت ُ أول رسالتي بآخرها فاكتشفت ُ أني ....... ؟!!!
أيها الناس هذه قصة بياع الذهب !