عثر بالصدفة فى حوزة ابنه الصغير شريف - فى المرحلة الابتدائية - على صباع طباشر ملون يلهو به .
سأله عن مصدره ، فتلجلج وفشل فى إقناعه بأنه هدية المدرس لتفوقه0 حقق معه حتى أدرك انه استولى عليه من صندوق الطباشير بحجرة الرسم دون علم المدرس0 ظل قرابة الساعة يشرح له خطأه ويوضح له جريمته التى ارتكبها فى حق زملائه ومجتمعه بسرقة حق الجميع ليستمتع به وحده - بعبارات محفوظة كالقوالب الجاهزة وبطريقة آلية - وفى نهاية كلامه أمره أن يذهب فى الغد إلى المدرس ويعترف له بما حدث ويرد صباع الطباشير له فى ظل الثورة على الفساد واعادة الحقوق المنهوبة من افراد طماعين لاصحابها الحقيقين لكنه لم يفعل ذلك .
ضربه على عصيانه لكلامه ثم شرد بعدها فى ذكرياته : فهو طوال عمره ومنذ أن كف أبوه عن عقابه على اخطاءه ، وصب الأوامر والنصائح كالزيت المغلى فوق رأسه حتى موته .. كأنما عاهد نفسه بعدها ألا يستمع لنصيحة أحد سواء أكان مخطئا أم مصيباً .. سواء أكانت النصيحة من عاقل أم أحمق .. وجعل شعاره بوعى منه وبغير وعى أن يخالف كل ما يقال له من نصائح .. وكانت هوايته الكبرى أن يعصى القوانين ، فيظل القانون عدوه اللدود إلى أن ينجح فى خرقه ، ويستلذ بتكرار خرقه .. والتعليمات تظل عبئا لا يطاق إلى أن ينجح فى العثور على وسيلة يستطيع أن يتحايل بها عليها ، بل على كل ما يأخذ شكل القانون .. إذا تصادف ووجد قيشانى فى دورة مياه يدخلها لامعا نظيفا لا يستريح إلا إذا اخرج قلما وخط وشخبط عليه حتى يشو منظره ، وإذا جلس على مقعد عربة الأتوبيس سرعان ما يخرج المطواة الصغيرة ذات السلاح الحاد من سلسلة مفاتيحه ويقطع فى جلده فى تخف شديد حتى يطل القطن .. فهو يكره كل من ينصحه أو ينتقده أو يتطرق لجريمته التى ليست فى قيمة صباع الطباشير بل فى معناها 00 سرقة ما ليس حقه ومنع انتفاع التلاميذ به ، ولن يستغله إلا فى إتلاف جدران البيت او جلده أو ملابسه0 شرد فيما يحصل عليه من منح واكرميات من عملاء المصلحة الأغنياء .. انه لا يسرق أموال الحكومة أو الشعب بل يدفع له العملاء برضاءهم ، ليحصلوا على تسهيلات حتى يستطيع أن يجابهه غلاء المعيشة - رزقه ورزق أولاده - لكن الرزق ليس فى الحصول على الأموال باى طريقة بل ربما يكون فى بلاء يدفع عنك .. يقدرالله البلاء ويخففه او يدفعه عنك ، وهناك الكثير من الدلائل فى حياته : دمل فى عين زوجة جاره الكناس يخف من مرهم تيرامسين عين مقترض من جار ، بينما دمل فى عين زوجته يحتاج لطبيب عيون مشهور وعلاج غالى بعد عملية جراحية صغرى ، وأبناء جاره طوال النهار ونصف الليل صيفاً وشتاءً نصف عرايا يخف بردهم بنصف اسبرينة .. بينما أولاده مع الوقاية والتحصين شفاؤهم لا يكاد يتم حتى بأدوية غالية 0
التفت حوله هربا من صراعه النفسى اصطدمت نظراته ببراويز معلقة على الحائط نسيها بما تحوى من آيات قرآنية تربط الرزق بالتقوى وبالسماء ، كما تقلصت من ذاكرته عدد أجزاء القرآن التى حفظها فى صغره إلى بضع أجزاء ، ثم إلى بعض آيات من سور يتلوها فى صلواته التى يحافظ على أن تكون علانية ، وربما احتاجت تلك الآيات أيضا للتقويم إذا اضطرته الظروف وصار أماماً لمصلين حفظه للقرآن 00 لكن هل يصح أن يكون أماماً لمصلين ؟ .. انه لا يكاد يصلح إلا أن يكون إماماً لابنه فيما يفعله0 سنوات كثيرة حبس فيها الصراع النفسى داخله فى قمم أطلقه صباع طباشير ملون 00 أجل إنه لا يأخذ أموال من العملاء رغما عنهم إلا أنهم لن يضحوا حتى بالقليل من أموالهم إلا ليحصلوا على ما ليس من حقهم .. ومن خلاله يجنوا أضعاف ما دفعوا ملايين المرات .. وتكون النتيجة إما أكل غير صالح له ولأسرته ، أو سكن متهاٍو لابنه0
أن الرجل القوى هو الذى يقاوم نقطة ضعفه ، ويصارع شهوات نفسه .. لا إن يضعف ويختلق المبررات ليفسرعجزه عن كبح جماح شهواته أو مصارعة نزواته وجهاد نفسه الأمارة بالسوء ، او يشكو سوء الحظ .. انه فى حاجه إلى أن يحب نفسه ويقدرها فلا يعرضها للمذلة والبيع والشراء 00 فإذا قدرها أحب أن تقيم فى بيئة نظيفة وقوية وصحية وتمنع عمن لا يستحق ما يصبو لاغتصابه ليتكسب من بنيان المجتمع ونظافته وصحته 00 فحقا ما كل ما فوق البسيطة كافيا .. فإذا قنعت فكل شئ كاف .
بحزم قاطع أخذ ابنه فى الصباح ، وذهب إلى المدرسة واعترف للمدرس بما فعله وطلب الصفح والغفران .