المقامة الانتخابية
حكى حمدان بن صبَاح قال: كان لي صاحب مللتُ صحبَته، أبرمَني حتى رجوتُ غيبَته. وكان على ثِقلِه يعراه المَسُّ، فيرى نفسه كنَبِيّ أو قَسٍّ، وأبلغَ من قُسٍّ. يتنبأ كطليحة بني أسد، ويفعل فعل ذات المَسد. بلغَه تكالب الناس على السياسة، فأقسم أن يرشح نفسه للرئاسة. ثم إنه جاءني يطلب المشورة، فيما ليس له فيه ضرورة، قلتُ: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار. ثم سألته: وكيف ستسوس، وتجنب الناس البَسوس؟ قلْ وُقيتَ الغَموس! قال: اسمعْ رعاك الله! سأجتهد رأيي ولا آلو، فإن تورطتُ أقول "آلو"، فهناك مَن يشير، وربك كبير. قلت: مُشيرُك لا بالخَيِّر ولا بالشَّيِّر.
ثم قلت: وما ستخطبُ في الناس؟ قال: اسمع وعِ! وُقيتَ العِي. أيها الناس! أُحبُّ البَسْباس، والرقص مع النَّسْناس. لو أصبحتُ الرئيس، لحرَّرت العِيس، ولزوجتُ النسوان، لكل حمار أتان. كيْلا تبقى العوانس، فصبراً يا أوانس! ولأُنْكِحَنَّ العَنين، ولَيُنجِبَّن البَنين. ولكسوتُ العُراة، وعرَّيت الكُساة، ولنعَلتُ الحافي، وأحفيْتُ الناعِل، ولأشبعتُ الجِياع، وجوعتُ الشِّباع. ولعلَّمت الجاهل، وجهَّلت العالم، ولبرأت الظالم، وقضيت في المظالم. ولقتلتُ حَمَاتي، وأصهاري حُمَاتي. فلا دِية لها ولا قَوَد، لا كثيرٌ ولا ثَمَد. ولأفنيتُ الداء، حتى يبورَ الدواء، ويستقيلَ الأطباء، ويكتئبَ الصيادلة، ويفرحَ العبادلة. ولجُدْتُ بالمال، في الآن والحال، على مَن طلب، حتى يقول يا عجب! فالمالُ مالُ الله، فلْيَكُنْ لله! ولأطلقتُ المساجين، توّاً وفي الحين، وحتى المجانين، يكفي من الأنين، أليسوا كالبشر؟ أجيبوا يا حجر! ولسجنتُ الأحرار، وفتحت الأمصار، ولوزعت الخمور، وجعلت الكأس تدور، فمن سَكَر شكر، عرف وذَكَر. ولَجِئتُ بالحُور، وشيدت الدُّور، وهدمت القصور، حتى يغار من في القبور. أرأيتمُ ابنَ آوى! لأجعلَنَّ له مأوى.
يا أهل القُرى! ليَرْبُوَنَّ عندكم القِرى، وإذا كَثُرَ القِرى، كَثُرَ الخِرا، قلت: أفٍّ! ثم تُفٍّ! لكنه مضى يقول: ولتنعمُنَّ بالطيبات، والإبل المسوَّمات، ورَبِّ الأرَضين، ومَن سَيَّر العِير، وأنال الميرَ، وخلَقَ الطيْر، ونافِخَ الكير، لَيَزكون حَرثُكم، ولتكثرن أنعامُكم، حتى تسيبَ الغنَم، من شاء غَنِم، ولا ينقطع المطر، حتى يملَّ البدوُ والحضر، ويعمَّ الضجر، وتقولون: إنَّا في خطر، اللهم حَواليْنا لا علينا! سُقيا رحمة لا عذاب، يا رب الأرباب! ويكثر الثغاء، بَعْ بَعْ، حتى يضجرَ اللُّكَع، وبينا الشياهُ في ثغاء، تداعى الناسُ للدعاء: أسْكِتْهُمْ يا رب! اشغلهم بماء وأبّ! ثم تجعلون أصابعكم في آذانكم حَذَر الصمم، وقد خارت الهِمم، والبقرُ يخور، ثائراً يقول: اكتظتِ الحظائر، واتسختِ الحصائر، افتحوا الأبواب! يا كلاب! والراعي فرَّ، وأنَّى له الكَرّ؟ فالزموا أماكنكم يومئذ! ولا تخشوْا شيئا! فلَستُم للبقر فيْئا، فورب الكعبة، لأجعلنَّكم أفضل الخليقة، وأحسنَهم طريقة.
أيها الناس! وربِّ السماء، ومَن خلق الدهماء، لتسْتلِذُّنَّ الكَرى، من دون الوَرى، فالعمل ليس غير ساعة، سواء الموظفون والباعة، حتى يقول الفلاَّح، ما هذا الفلاَح؟ ويفرح لِفرَحه البغل، ويبش لبَشِّه النمل، ويمتلئ الضرع، وينمو الزرع، حتى لا يوجد حالب، ولا للَّبنِ طالب. فيا لها من بركة، مع قلة الحركة! وترى الناس سكارى، ويا لأهازيج العَذارى! وترى السِّباع كالضباع، سواسية كأسنان المشط، الفأر يراقص القِط، لا مَيْز بينهما قَط. والكلب في مُكاءٍ وتصفيق، والنسور عافت التحليق، ولِمَ وهي في رَغَد؟ لا يَشغلها يومُها ولا غد. الخيرُ وافر، فعلامَ تسافر؟ والذئب يدْلُكُ النعجة، قد استرخَتْ في هَجْعَة، كأنها في نُجْعَة، تمضغُ العِلْك، تقول ما أحلى الدَّلْك! كأني في فُلْك، ليس قولي إفك. وعلى أريكتِه ربُّ البيت، يُرجِّل شعره بالزيت، وينظر إلى الجميع، أجبتنا يا سميع! سبحانك يا بديع!
أيها الناس! وفالق الحب والنوى، ومَن خلق الرشدَ والهَوى. قلت: صَهْ صَهْ! لن تَفي. قال: أفي. قلت: لن يكون. قال: بلى، يهون. ثم استرسل يقول: العدل حق، والحق عدل، والظلم جَور، والجور ظلم، فلا تشهدوا الزور! ولا تُزوروا الشهادة! وإياكم والبلادة! واختاروا رائدكم كما تتخيَّرون لنطفكم، فإن العِرق دسَّاس، واحذروا الأنجاس! فهذه سياسة، كلها نجاسة.
ثم قال: ما ترى في خُطْبَتي؟ قلت: يا لها من خُلْطَة! كأنها خُطبة! قال: ما تقول؟ قلت: كالعَذِرة، ومعذرة! قال: "حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق"، وكيف وجدتَ الخطة؟ قلت: تُبْ وقل حِطَّة! لو سمع الناس مقالتَك لرجموك بالرَّوث، ثم ناديتَ الغَوْث! الغوث! فكأني لم أقلْ ولم يسمعْ، فمضى يقول: أيها الناس! يا بني آدم! ومَن خلق الفصيح والأعْجَم، لَيقِلَّن عجاجُكم، وليكثرن دجاجُكم. فمن يصيح بالدجاجة: دِجْ دِجْ؟ تُركي أم عِلج؟ أنأتي به من الدَّيْلم؟ أجِبْ يا غَيْلم! فشمِّروا عن السواعد! ولا تكونوا كالقواعِد! يا قوم، كفى من النوم! يا خير الأمم! أين الهِمَم؟ هِمَّة يا رجال! دونكم ربَّاتُ الحِجال! تناسلوا، تناكحوا! تكاثروا، تصالحوا!
أيها العرب! أنار الله بصيرتكم، وأشرقت مصابيح الهدى في طرقكم. ليجتمعَنَّ بين أيديكم الذهب، فقولوا لمن يهاجر لا تذهبْ! ولتكونن الفضة أكواما، تُغنيكم أعواما وأعواما. أرأيتم القمر! لأجعلنه أحمر. وليكونن وجهة السفر. فترى الناس في غُدوٍّ ورَواح، ويقبل الزائرون والسواح. ولتمتلئن خطوط الذهاب، ويستوطن أقوام فلا إياب. قد عمَروا القمر، وطاب لهم السمر، واستلذوا المقام، يا سلام! والأرض تتحرَّق غيرة، والقمر يقول لِمَ الحيرة؟ فتقول: يا ويلي! أعيدوا لي أهلي! والقمر ضاحك نشوان، قرَّتْ عينه بالنسوان. يقول صبراً يا أرض! أما لك عِرض؟ هذا قدَر الله، ولِحكمة أراه.
يا أهل الوبر! يا أهل الحضر! وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، ولكن ليس فيكم مَن هو خير مني، فأعينوني! فإني إن أدَعْكم وشأنكم تكونوا كالهَمَل، وإن وَلَّيْتُم غيري جعلكم كالقمل. يا قوم! لأمرٍ ما يسود من يسود، ويومكم لا يعود، فإياكم وغرَّ السراب! واستمراء الكباب! ألا إني أبصرُ من عقاب، وأحذرُ من غراب، ولقد رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة، فلا يغرنكم الكرم، فإنه كبيضة الديك، وما كل سوداء تمرة، وتمرةُ اليوم غدا جمرة. والجوادُ عينُه فِرارُه. فلا تسمعوا لنقيق الضفدع! واسمعوا لمن بالحق صدع! وبعض القول يذهب في الرياح، فلا تغرنكم كثرة الصياح!
أيها البشر! ورَبِّ الجنة وسقر، وما أدراك ما سقر! لتمَلُّن الماس، ولتَشْرَبُنَّ ولا تفرغُ الكاس، والأرض تنشق لرؤية الفاس. واللقمة تسابق اللقمة، أيهما تكون في الفم مضغة! أرأيتم الدِّيك! ليذبحَنَّ نفسَه، وليزيلن ريشه، تاركا عَيشه، وعُرْفَ رأسه، مضحيا بنفسه، وليوقدن النار ويقطعن البصل، وليتخلصن من القَوادِم وما فضل. ثم ليُلقين بنفسه في القِدر، طائعا غير مُكره، قد احتسب عند الله أجره. وبعد هنيهة كمَرِّ النَّيزك، ترى الديك بين يديك، يتودد إليك، يرجوك أن تأكله هنيئا، سائغا مريئا، فخُذِ الديك، وضَعْهُ بفيك!
أيها الناس! أرأيتم إن وافت أحدكم المنية! لأجعلنه أسعدَ البَرية. ليُغَسِّلَنَّ نفسه، ويتفقد رمسَه، وليخيطَن كفنه، ويُعين من دفنه، وليَحضُرن مأتمه، ويتلقى التعزية، فلكأنها تهنية، ولا ينصرف حتى يأكل من طعام العزاء، ويُنادم الأعزاء. وليصلين على نفسه، وليتَّبِعَنَّ جنازَتَه، بل لتتبعَنَّه جنازتُه، كيف وقد ركب السيَّارة، يسير كما تسير المَيَّارة، والسائق ينظر أمرَ مولاه، ويقول: ارحمْهُ يا الله! وليدخلن لَحْدَه، ماشيا وحده، وليرتمِيَن على سريره، بطنافسه وحريره، ثم ينام نومة الأبرار، حتى يختلط عليه الليل والنهار، ولا يعرف أحيٌّ هو أم ميت، أبدارهِ أم بالبيت، أفارق الحياة، أم غادر الممات!
أيها الناس! أبشروا، هَلِّلوا! اسعدوا، تفاءلوا! ومَن خلق البهائم، ورزق الحمائم...
قال حمدان: فلم أدرِ أأعِظُه أم أعُضُّه؟ أنصحُه أم أنطحُه؟ أنهاهُ أم أهنِّئه؟ أعذرُه أم أعذلُه؟ أدَعُه أم أدُعُّه؟ أمدَحُه أم أدُحُّه؟ أضُمُّه أم أضِيمُه؟ أشجِّعُه أم أشُجُّه؟ أسالِمُه أم أسْلِمُه؟ أحضنُه أم أنضحُه؟ أقَبِّلُه أم أقلِبُه؟ أبوسُه أم أسُبُّه؟ أثنِي عليه أم أثْنِيه؟ أصْفعُه أم أصفحُ عنه؟ أفضحُه أم أحفظُه؟ أصارِحُه أم أحاصِرُه؟ أشيِّعُه أم أشْنعُه؟
قال: ثم مضيت وتركته يخطُب، وقد أهمَّني أمره، وشغلني خطبُه، وأنا أقول: ماذا لو أصبح الرئيس؟
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ربيع بن المدني السملالي
