بعثت سيدةٌ إلى جوالي برسالة :(قمر يتلألأ على شواطئ الحياة ! يا أنت , إني والله أحبك , أحبك هل تتخلى عني ؟! أنت مزجٌ من الثقافات , أشعر معك بشعور غريب , أنت وحدك ! أجل أنت سرقت قلبي !!) فلما دققتُ في حروف كلماتها , وأمعنتُ النظر جيدا , لمحتُ ظبيا نافرا وراء السطور , متهدّجَ الأنفاس , متقطّع اللفتات , فأدرتُ وجهي كأن لم أره , فلما رآني مدبرا أطل برأسه , فكان أن كتبتُ :
قمر يتلألأ على شواطئ الحياة
ليت كلماتك كانت النهر البارد يجري بلا توقف .. وأنا ما أدري إن قلت رائعة , هل أنا بذلك أمدحها أم ماذا ؟ فالأصل في قوانين الطبيعة لا يسأل عن أصله ! أتحتاج أزهار الربيع , وقد وشّتها رشاشات السحب , فكانت فتنة ! وضحكات الصبايا , فكانت متعة , وضمّختها بعبيرها لواعج المشتاق , فكانت شجنا , إلى ثناء أو مديح ؟! أيحتاج ما اتفق الناس على حسنه ودلاله أن نقول له : يامليح ؟!
خلبتني كلماتك بحرارة معانيها , وسحرتني بتنوع أساليبها , وأخذتني بصدق تجربتها , وإن من الكلمات ما يبعث في الدماء دماءً جديدة فائرة فتخلب , ومن الكلمات ما تدور معانيها في كل أقطار النفس فتسحر , ومن الكلمات ماتجاوز بقارئها الزمان والمكان فتأخذ !!!
- هل تتخلى عني ؟! حينما تعترض الاستفهامات طرائق الكلام , يبدأ التنفس مرحلة جديدة من الضخّ , ولو كان الكلام على وتيرة واحدة من الأسلوب , وضربٍ لا يتغير من التعبير , لفقد القولُ ربيعَه النضر , وطيفَهُ الواله , ولكان صورة من صور الخريف حيث لا ماء يجري , ولا طلع ينبت , ولا وجه يسرّ .
سيدتي! أنا ما وقعتُ في الكلمات منك على الحروف والنقط ! وإنما وقعتُ منك على سحر عينيك , وملاحة خديك , وكنتُ أراك في كل كلمة تهمس بها شفتاك , وفي كل كلمة من كلماتك أرى نبضة قلب , وضحكة ثغر , وظرافة طبع , وإن من الكلمات أجنحة تطير , ومطالعاً تلوح , وأعصابا تنفعل , وأوداجا تنتفخ أو تنبسط , وأيادٍ تومي أو ترمي ..
أميرتي ! قد لا آخذ منك ما يأخذه الرجل من المرأة , ونحن لسنا على رباط , غير أن الحرّ يكفيه أن يكسب قلبا نقيا كالغمام , ويربح روحا كالنور , وأن يضيف إلى عقله عقلا , وإلى حدسه حدسا , وإلى مواهبه مواهبَ , لو وزّعت لكفت ! ولو اختصرت لكنا معا , ولطلعنا في الصورة معا !
أرأيت كيف تسعى الرياح بزحات البحار إلى السماء ؟! إن ما يحدث في طبقات الجو العليا من انجذاب واعتناق وانسجام , تتشكل على ضوئها السحب الجون , ويبدأ تشكيل السماء من جديد , فيسودُّ ماكان مبيضّا , ويصخبُ ما كان ساكنا ! هو مايحدث فينا بالنفس , فنحن أكثر ما نكون التحاما حال بعدنا , وأكثر ما نكون التصاقا حال حديثنا , وأكثر ما نكون اجتماعا حال صمتنا , فما أسكت الكلام , وما أنطق الصمت!
(أحبك!!) خلقا آخر من المشاعر , له ما للبحار من فيضان , وما للحكم من سلطان , وما للمنطق من برهان , وما للأرض من عنوان , ولا تكون الكلمات سماويةً إلا إذا ارتفعت بالوجدان فغذته , وارتقت بالفكر فوجّهته !
(أنت وحدك سرقت قلبي) وقد يحتال المرء على حرز يجوز كالقط خفية إليه , فيسرق ما وراءه , ولكن كيف يحتال المرء على قلب مسوّرٍ بأعظم سور ؟!!
ألا ما أجمل أن يجد المرءُ نفسه متربعا على عرش من الورد , تخفق أطياف السماء من حوله , وتحفُّ بنات الأحلام به , لينال لذيذ : ( أنت وحدك سرقت قلبي )
ماذا أسطر للحب من معاني , وماذا أضع له من تعريفات ؟ أأقول لقد تغنى به الشعراء , وسهر على معالجته الموسيقيون , وتجرع ويلاته المحرومون ؟؟؟ فماذا أضفتُ إذن ؟! وما أظن الحب إلا مظهرا من مظاهر جمال الله وإشراقه على روح الكون , فها أنت ترى الغصن يعطف على الغصن , والنسيم على الأوراق , وترى الحمامتين على عذق شجرة يتناجيان بأعذب ما في الكون من شجن !
(أنت مزجٌ من الثقافات , أشعر معك بشعور غريب)
ولقد ارتميتُ في مياه هذه الكلمات الساخنة البارحة , فخرجتُ إلى الناس طاهرا نقيا! (وليس كالحب مطهرا للنفوس , مصلحا للأمم , وحافزا إلى الفضيلة , ولولا الحب ما بكى الغمام لجدب الأرض , ولا ضحكت الأرض بزهر الربيع , ولا كانت الحياة) علي الطنطاوي .
ومن أنا سيدتي حتى أحلّق فوق كلماتك الممتدة المعاني , المتشظية المرامي ؟! إنما أنا كاتب غير معروف , تضافرت على اغتياله الظروف .
أستودع الأقلامَ ما أبقته المشاعر , وعجزت عن حمله الدفاتر , وضاقت عن حصره الخواطر!
بقلم الكاتب / طارق السكري