جلبة و دخان كثيف تصاعد نتيجة لدخان السجائر و النراجيل ومذياع ضخم قديم تربع على منصة مرتفعة يصدح بأغنية جميلة لكوكب الشرق
((اد ايه من عمري قبلك راح وعدى ياحبيبي
اد ايه من عمري راح))
يجلس الاستاذ وحيداً رغم سيل المهنئين الطالبين منه الانضمام لطاولاتهم بعد طول غيبته
-( والله افتقدناك يا استاذ لك وحشة كبيرة أين كنت ؟ قلقنا عليك , عسى ما شر) زبون يصرخ مهنئاً
-الاستاذ:هههه . مشاغل واعباء , سلمك الله
يجيب على مضض , محاولاً إخفاء الكذب الذي لم يتعود عليه .
الاستاذ(هامساً بسخرية) : آخ لو تعرف اين كنت اقبع الايام الماضية , والتي مرت علي كسنيين , ليتك كنت معي هههههه .
(( ولا شاف القلب منك فرحة وحده ولا داق في يوم غير طعم الجراح))
صدقتي يا ست .في الأيام القليلة الماضية , ذقت كماً هائلاً من الجراح , يعادل كل سنين حياتي مجتمعة( الاستاذ بصوت خافت)
صبي المقهى يصرخ بفرح وهو يحمل عدداً من كؤوس الشاي ويؤرجحها بحركات بهلوانية:
- أحلى كاس شاي للأستاذ . و الحساب مدفوع من قبل المعلم الكبير صاحب المقهى .
يلتفت الأستاذإليه فيراه قد رفع يديه بحركة استعراضية وكأن لسان حاله يقول: لا داعي للشكر..
-شرفتنا يا أستاذ . أين كل هذا الغياب ؟ (صاحب المقهى هاتفاً , وهو يداعب شاربيه الممتدتين على وجهه كأنهما قرنا ثور معمر)
-الأستاذ بلكنة الممتن: الله يعطيك العافية يا معلم , والله لقد كنت مشغولاً الأيام الماضية .
- يهمس( وكأنك لا تعرف أين كنت يابن الزا.... والله يتملكني شعور كبير , بأنك أنت , من كنت وراء غيبتي)
-مئة مرة قلت لك إن أردت اللعب معي , فلا داعي للغش يا أخي , ما جنسك أنت ؟ لا تعرف اللعب من دون غش (زبون يصرخ بحنق واقفاً)
- هه , و من يتقن اليوم اللعب بدون غش يا أحمق ؟. إنما نعوم في بحر من الغش( رفيقه على الكرسي المقابل مع ضحكة صفراء)
(أستاذ ليس لي دخل) يجلس وحيداً على طاولة منفردة) يقوم كمن لدغته أفعى و يصرخ:
ليس لي دخل , ليس لي دخل , قلت له ألف مرة , يا بني لسانك حصانك ,إن صنته صانك )
تعالت الصيحات المستنكرة و المؤنبة من تلك الطاولة ,والتي اجتمع عليها أربعة رجال في منتصف أعمارهم يقتلون الملل و الوحدة
- صاحب المقهى مناديا صبيه: أسكت االعجوز, و صب له كاساً من الشاي.
يهمس بأذن صبيه: وواحدة للغشاش , عسى أن تتفتح قريحته.
- كم صرت أكره اللعب , يذكرني دوما بالأماكن المغلقة( الأستاذ هامساً)
- زبون:الله( دو شيش) ! راحت عليك , وهزمتك بالثلاث . صوت يزمجر بضحكة نصر مستهزئة.
يرد عليه باستسلام و يأس :- ( لا انت اليوم حظك كحظ بنات الهوى لا يقهر) يرد عليه خصمه
اترك الحظ جانبا , هذا يسمى حرفية .(يرد بلهجة المنتصر)
( ابتديت دلوقت احس ابتديت دلوقت اخاف للعمر يجري)
(استاذ ليس لي دخل): -الله يا ست الله (عبرة و بكاء مخفي ) , ويتابع: وهل بقي من العمر إلا رشفة( يرتشف كأس شايه بصوت عال مقزز)
المذياع العتيق: - لاز لتم أحبتي تستمعون إلى كوكب الشرق أم كلثوم من إذاعة صوت إسرائيل من اورشليم القدس .
صمت رهيب أطبق على المكان و الكل ينظر باتجاه صاحب المقهى , الذي تخشب بطريقة عجيبة ,و تهدل شاربه , فغدا كحبل الغسيل المهترئ .
الكل بصوت واحد شامت:( الله يعينك يا معلم راحت عليك أيام اللعب و الفهلوة)
صاحب المقهى يستفيق من غيبوبته و بصوت باك محترق مخاطباً صبيه:
-كم مرة قلت لك يا حيوان , لا تضع هذه الإذاعة اللعينة , روح وأنت طالق ( اقصد أنت مفصول)
العامل بنحيب و ألم: - أنت قلت لي يا معلم , ضع للزبائن أغنية لام كلثوم ,ولم أجدها إلا على هذه الموجة .
ينظر صاحب المقهى إلى المذياع بحنق , و يهم أن يكر عليه و يحطمه.
المذياع العتيق ناطقاً: - ليس لي دخل , ليس لي دخل
أستاذ ليس لي دخل: - هذا أنا , حقوق الطبع محفوظة , سأقاضيك بتهمة الاختلاس .
المذياع العتيق: هكذا برمجت , و ما على المذياع إلا الانصياع.
(الوجوم يخيم على المقهى وتنطفئ الاضاءة الا على وجه صاحب المقهى و مكتبه)
يضرب كفيه بكلتا يديه باكياً: -لا حول ولا قوة الا بالله .
(جرس الهاتف يرن بقسوة وشماته)
زبون:- جاءك الموت يا تارك الصلاة(بنبرة ضاحكة)
(الجميع في المقهى يضحك ثم تسكت اصوات الضحكات الا صوت المذياع العتيق مازال ضاحكاً)
صاحب المقهى يرفع السماعة بخوف و تردد ثم يقف خائفاً:
-احترامي سيدي أنا ل.......
(يصمت . امن الواضح أن الذي على الخط الآخر لا يعطيه فرصة للكلام)
صاحب المقهى: ليس لي دخل يا سيدي .
(الإضاءة تنتقل إلى الأستاذ ليس لي دخل): وما علاقتي أنا بالموضوع ؟الحمد لله ,الشهود كثر
صاحب المقهى: اخرس يا مجنون.
أستاذ ليس لي دخل: حاضر يا باشا
صاحب المقهى مرتبكاً ينشف عرقه: - ليس لك سيدي إنما أخاطب عجوزاً خرفاً .
-حاضر. حاضر , كما تامرون سيدي ,أنا و الصبي و المذياع , سنكون عندكم حالاً .
المذياع العتيق: يا ويلي , و يا سواد ليلي
صبي القهوة: أريد أمي .
(جو حزين يسود المقهى و الزبائن تربت على كتف صبي المقهى لمواساته)
الاستاذ: لا تخف ,مجرد سؤال و جواب ,المهم أن تحتفظ برباطة جأشك.
الجميع يربتون على المذياع العتيق , الذي تصاعدت منه موسقى جنائزية.
ثم يتوقف قائلاً: آن الآوان لوضعي في باحات المزابل , أو بيعي كقطع مستعملة , يا خسارة التكنو لوجيا الاصيلة
صاحب المقهى: نعتذر منكم أيها السادة ,سنضطر لإغلاق المقهى لبعض الوقت ,لظروف عائلية طارئة(ثم يلتفت الى صبيه بصوت آمر): أغلق المكان , و الحقني بصحبة هذا المذياع الحقير الى الخارج , فأنا بانتظاركم.
(يغادر صاحب المقهى المكان بعد أن فتح خزنته , و تناول منها رزمة من النقود)
الاستاذ بصوت ضاحك: - ظروف عائلية ؟! هه ... لا تنس أن تسلم لي على حماتك .
زبون:- سترى ظروفاً عائلية , تحمر لها الرقاب في حضرة معاليه هههههه ..
( تنفجر الضحكات في المقهى)
الأستاذ و العجوز ليس لي دخل يقتربان من الصبي وهم يربتون على كتفيه:
- لا تخف . وأي سؤال يوجهونه إليك , قل لهم : هكذا أمرني معلم المقهى , أنا لا أعرف شيئاً ,
أنا جاهل , و لا أفرق بين البطيخ و الشمام , أو بين النسور و الحمام .
يغادر الجميع المقهى ويلملم الصبي حاجياته و يلتفت الى المذياع العتيق معاتباً:
-هذا ذنبي , أني أحببتك , و لطالما أزلت عنك الغبار و الأوساخ , وعاملت أزرارك الكبيرة بكل رقة و احترام .
-ما ذنب أمي و إخوتي الصغار ,الذين سينتظرون عودتي , التي قد تطول أو لا تحصل ؟
المذياع العتيق: - لا تخف أعدك بأنك أول من يخرج من هناك و سأفديك بروحي و أسلاكي .
ولكن عليك أن تصغي جيداً لما أقوله , و تنفذ بالحرف الواحد.
صبي المقهى: حسناً لأرى مانهايه هذه القصة معك
(صبي المقهى يحمل المذياع العتيق)
(المذياع العتيق يقهقه): أنت تحملني من أماكن حساسة و تدغدغني
صبي المقهى: مذياع أحمق , و كانهم صنعوك في مشفى للأمراض العقلية .
المذياع(بلهجة جادة) وكيف عرفت ؟ وهل كان أحد أجدادك من صناعي ؟
صبي المقهى: اصمت ,ودعنا نذهب قبل أن نسمع نباح المعلم .
صبي المقهى يصرخ: - لا تنسونا يا شباب من الخبز و الحلاوة
المذياع: و أنا كذلك لا تنسوني من بعض البطاريات
يغادر الجميع وتنطلق موسقى حزينة يتخللها صوت جوقة مؤلفة من رواد المقهى تنشد:
(يا ظلام السجن خيم
إننا نهوى الظلاما
ليس بعد الظلم إلا
فجر مجد يتسامى
يا رنين القيد زدني
نغمة تشجي فؤادي)
(صوت قادم من بعيد لشخص كأنه ذو رتبة عسكرية رفيعة:
-اخرسوا جميعاً و إلا أخذتكم معهم.
تسكت الاصوات , و تنطلق موسيقى خوف و رعب .