هاجمتـني العواصف منذ الصبا وتذكرت، فكانت الذكريات تنخر ذهني بلا حدود ، والورقة النقدية المشؤومة غدت سجناً بلا قضبان .. وصوت الرجل يناديني من بعيد.. رد الورقة يا طفل ..!
الآن أفرك كفي من صدأ الذنب الكبـير، والخناجر الصامتة تنهشني بدون توقف ، ماذا أقول في زمن الزلزلة..؟ لقد أنبأ الله بها من قديـم ، ماذا أقول لمحقق القبور بعد الشهقة الأخيرة..؟
كان الزمان يقضم الوقت ثانـية ثانـية، وخيوط الشمس تغني في السوق معلنة حرباً على الضباب، فتراء ت لي رؤوس البشر كحبات السبحة متـناثرة ، جاءت من كل فج عميق تبيع وتشتري ما تريد ..
في هذا اليوم بالذات ، اقتربت من السعير، نصب الشيطان لي فخاً كالطائر الجائع فرغت حوصلته من الحبوب ، حينما وقف الرجل أمامي منتصباً وهو يعد أوراقه النقدية . كنت أرقبها وهي ترتجف بين أنامله الخشبية.. كاد الانتظار يكسر أنفي ، فانفلتـت ورقة نقدية وسقطت على الأرض . وبسرعة خاطفة ، وضعت عليها رجلي اليمنى ، وخنـقـتها فلم تعد ترى النور .. لم أتحرك ولم أتململ من مكاني ، كدت أفقد توازني ، فسحبت رجلي اليسرى في تؤدَة ، ثم استويت في وقفتي ..
أعطاني الرجل النقود التي كانت ديناً لأبي عليه بعدما أتم العد ، وهو ينتظر انصرافي ، نظر إليّ في ارتياب كأنه يجردني من ثـيابي ، فخفت أن يفـتضح أمري ، لكن الرجل خرج عن صمته ، وقال بعدما ترك لي الفرصة لإعمال الفكر واختبار الذكاء..
ـــ هيا انصرف، يا لوقاحة أطفا ل اليوم ..! ما عهدنا هذا في زماننا ..! قالها بنبرة حادة، بعدما نعتـني با لغباوة ، ابتسمت ابتسامة حمقاء ، قلت في نفسي : لا غباوة أفدح من غباوتـك يا عمي علال..! وفي رمشة عين ، أسقطت كل الأوراق النقدية ، فاختـلطت جميعها ، انحنيت عليها كالعقاب وجمعتها دون ترتيب .. وحلت المشكلة في نظري ..!
رددت النقود إلى أبي ، واحتـفظت بالورقة النقدية الفائضة .. لم أبدرْها ، ولم أشتر بها حلوى أو مأكل ، رغم أنني لا أجد ما أملأ به معدتي .. طعامي الدائم هو كسرة خبز، وماء بارد ، وكأس شاي ساخن .. قمعـت الشهوة في مهدها وأحكمت الحزام على بطني .. أتدري ما اشتريت بها ..؟ كتباً مستعملة وأقلاماً ودفاتر .. وكنت مسروراً بالصفقة المربحة ....!
على ضوء المصباح الزيتي ، كنت أقرأ كـتاب" النظرات "للمنفلوطي ، أكاد ألتهم سطوره قبل أن يغلبني النوم ... قرأت من بين ما قرأت : أتدري ما هو الخلق عندي ..؟ وما أن أتممت النص حتى انتفضت كالمحموم ، فتشككت في خلقي ، وشعرت بانعدام المسؤولية أمام الضمير ...ضيعتُ الفضيلة التي كان يحث عليها أستاذي، كان رحمه الله يجتهد في تهذيب ضمائرنا، بترسيخ قيم الفضيلة والدعوة إلى نبذ الرذيلة كالخيانة والطمع، وكل سلوك مشين لا يتماشى وشريعة الله .. فقلت محدثـاً نفسي :
ـــ سرقتَ اليوم ، وما قدرتَ الفضيلة حق قدرها..! قلتُ: كل الناس يسرقون. والحاجة تدفعهم للسلب والنهب.. وأنا ما نهبتُ إلا ورقة نقدية.. ماذا تقول يا طفل..؟ سرقتَ الرجل الفقيه الذي أطعمك مع أولاده بالأمس ..!
لفت الحيرة رقبتي ، فصممت أن أرد الورقة النقدية إلى صاحبها عندما أشتغل..؟ نسيت القضية ، وغافلتـني الأيام ، فمرت تجري كنبع لا يتوقف ، والزمان يقود أيامه إلي الأمام ، والحزن يركض وينتفض في صدري .. يعتصرني القلق ، ويستبد بـي كلما رأيت تلك الكتب فوق طاولتي ..
أطفأت ذبالة المصباح الزيتي ، ونمت نومة المكروب ، فتراء ت لي حبال من نار تجلد جسمي ، وتلتف حول عنقي ، تضغط وتضغط ، وأنا أحاول إدخال أصابعي بينها وبين جلدة عنقي ، فأفـقت مذعوراً والعرق يتصبّب داخل منامة النوم ، برد جسمي وكأن جليداً يسلخ جلدي . فصممت أن أبيع غداً تلك الكتب عسى أن أضعف من سطوة الذنب المؤرق..
تداولت الأيام بين الناس، والذكريات تطوى كطي السجل للكـتاب، وحادثة الورقة النقدية نائمة كـفتنة قابلة للاشتعال في كل حيـن..
توظفت بعيداً عن قريتي ، اشتغلت بالتعليم، ولا أرجع إلى مسقط رأسي إلا بعد انتهاء الموسم الدراسي . كنت أجوب في نفس السوق ، والخلائق البشرية تـنغل كالنمل داخل فضاء فسيح . فإذا بالرجل الذي قابلته منذ سبع سنوات يخطو بخطوات وئيدة أمامي . انجلى غبار النسيان عن تلك الذكرى الألـيمة، فدخلت في كهف شجن عميق، وشعرت بصخرة الخطيئة تضغط من جديد . لا زال المشهد حياً وأنا أنقض على الورقة النقدية، اضطربت أصابعي، تملكـني الخوف والرعب، وشابتني صفرة قاتمة. كنت أتوقف بين الحين والآخر متخلفاً بعض الشيء عن أخي ، ارتاب في أمري، فسألني ما بك..؟ أجبت حالة عابرة فقط ..؟ لا تهتم بالأمر..!
تذكرت الوعد الذي قطعته على نفسي، فجريت وراء الرجل ، لكنه غاب بين الحشود. فمعالم السوق البدوي لم تتغيـر، بحثت عـنه فوجدته في المكان المعتاد . وقفت مشدوهاً ، فرأيت وجها بدلته قسوة تقاس بسبعة أعوام . كان الرجل قصير القامة ، عريض الكتفين، ذا لحية بيضاء ، تظهر عليه بلاء السنين . واليد الخفية التي خطت تلك السعادة الهنية قد مسحتها الأعوام الطوال، فانسحب الدم عن الوجه الوقور، فبدا شاحباً .. خطوت نحوه في تؤدة، وسلمت عليه فقال :
ـــ من ..؟
ـــ أنا ولد فلان ... يا طيب ، يا فقـيه ..!
ـــ أهلا وسهلا، والله طالت غيـبتـك ، أصبحت رجلا يا سعيد...
ـــ الزمن يغير يا عمي علال ، وأنت تعرف العمل خاصة في بلاد قصية ..
تعثرت الكلمات في فمي، فوددت أن أكسر حاجز الصمت المؤقت ، وأنزع السدادة عن فكري ، فكانت الكلمات تطير إلى أذنه ــ المائلة صوب فمي ــ في تتابع وأنا أرفع من صوتي .
ـــ يا عمي علال ، أنت ضيف عندي ، هذا وقت الغذاء ، وغذاء السوق لذيذ ، خاصة نكهة الشواء ..
تلكأ الرجل قليلا ، فأقسمت عليه ، وكررت القسم مراراً ..
ـــ لا بأس ، أكرمك الله ، هيا بنا ..!
تناولنا الغذاء ، ونحن نغوص في أحاديث متفرقة ، ننقض على الأحداث من آخرها ، ولا نستقر على موضوع .. فقلت :
ـــ خذ هذه الورقة النقدية، فهي لك ، وهي دراهمك ، سرقـتـُها منك في الأيام البالية ... لما كنت في الإعدادي، وهذه مثـلها، أرجوك أن تسامحني يا عمي علال في الدنيا والآخرة.. !
استغرب الرجل لما سمع كلامي ، فشخص بعينيه إلى الفضاء، فابتسم وقال :
حقا أنا المغفل آنذاك ..! هون علي نفسك ، قال تعالى: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ..) فالتوبة حصلت ، وبإذنه يرفع عـنك غضبه ، هــيا بنا فتبعـــات السوق لا تنتهي ، وسنتم حديثـنا في القرية إن شاء الله ...