"سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بالكتاب والسنة.
أما الأول فلأن الله سبحانه يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتابا
وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} والطاعن عليهم همزة لمزة
وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} وهم صدور المؤمنين فإنهم هم المواجهون بالخطاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} حيث ذكرت ولم يكتسبوا ما يوجب أذاهم لأن الله سبحانه رضي عنهم رضى مطلقا بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافقه على موجبات الرضى ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبدا
وقوله تعالى: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ} سواء كانت ظرفا محضا أو ظرفا فيها معنى التعليل فإن ذلك لتعلق الرضى بهم فإنه يسمى رضى أيضا كما في تعلق العلم والمشيئة والقدرة وغير ذلك من صفات الله سبحانه وقيل: بل الظرف يتعلق بنفس الرضى وإنه يرضى عن المؤمن بعد أن يطيعه ويسخط عن الكافر بعد أن يعصيه ويحب من اتبع الرسول بعد إتباعه له وكذلك أمثال هذا وهذا قول جمهور السلف وأهل الحديث وكثير من أهل الكلام وهو الأظهر وعلى هذا فقد بين في مواضع أخر أن هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من أهل الثواب في الآخرة يموتون على الإيمان الذي به يستحقون ذلك كما في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة".
وأيضا فكل من أخبر الله أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له فلو علم أنه يتعقب ذلك ما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك.
وهذا كما في قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}
ولأنه سبحانه وتعالى قال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقال سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} الآية وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} وهو أول من وجه بهذا الخطاب فهم مرادون بلا ريب
وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فجعل سبحانه ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للمهاجرين والأنصار والذين جاءوا من بعدهم مستغفرين للسابقين وداعين الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم فعلم أن الاستغفار لهم وطهارة القلب من الغل لهم أمر يحبه الله ويرضاه ويثني على فاعله
كما أنه قد أمر بذلك رسوله في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ومحبة الشيء كراهته لضده فيكون الله يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها: "أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبوهم" رواه مسلم.
وعن مجاهد عن ابن عباس قال: "لا تسبوا أصحاب محمد فإن الله قد أمرنا بالاستغفار لهم وقد علم أنهم سيقتتلون" رواه الإمام أحمد.
وعن سعد بن أبي وقاص قال: "الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت قال:
ثم قرأ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} فهؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت
ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}} قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. يقول: أن تستغفروا لهم"
ولأن من جاز سبه بعينه أو بغيره لم يجز الاستغفار له كما لا يجوز الاستغفار للمشركين لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وكما لا يجوز أن يستغفر لجنس العاصين مسمين باسم المعصية لأن ذلك لا سبيل إليه
ولأنه شرع لنا أن نسأل الله أن لا يجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا والسب باللسان أعظم من الغل الذي لا سب معه
ولو كان الغل عليهم والسب لهم جائزا لم يشرع لنا أن نسأله ترك ما لا يضر فعله
ولأنه وصف مستحقي الفيء بهذه الصفة كما وصف السابقين بالهجرة والنصرة فعلم أن ذلك صفة للمؤثر فيهم ولو كان السب جائزا لم يشترط في استحقاق الفيء ترك أمر جائز كما لا يشترط ترك سائر المباحات بل لو لم يكن الاستغفار لهم واجبا لم يكن شرطا في استحقاق الفيء لأن استحقاق الفيء لا يشترط فيه ما ليس بواجب بل هذا دليل على أن الاستغفار لهم داخل في عقد الدين وأصله".
الصارم المسلول على شاتم الرسول (6/ 62)
وقد اقتصرت على استدلاله بنصوص الكتاب.