أحدث المشاركات
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 25

الموضوع: الاختيار القاتل

  1. #1
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,368
    المواضيع : 200
    الردود : 2368
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي الاختيار القاتل

    رحل دون أن يودع رابحة العنورية بعدما أعياه الزمن. ...؟؟ وظن أن الأيام تآمرت عليه . شتم الحارة وخاصمها .. بصق على الحي بعدما غمغم كالصبي عندما يبكي على الثدي طلبا للبن ... خرج يودع ولسانه يشتم ولادته . " وداعا يا رابحة " جملة ردد حروفها في نفسه .. فكانت تخرج غير ناضجة .
    بالأمس كان علال الجنداري يسكت سكتة الميت أحيانا . يقلب اللقمة بين يديه .. يصعد بها من الصحن ، تتوقف يده في نصف المسافة الفاصلة بين الصحن وفمه .. ثم يرد اللقمة بعنف إلى الصحن .. ينقر حاشيته بأصبعه.. لم يجد قولا.. كانت اللحظة تأسره فتعصر دماغه .. حاول أ ن يسترخي أعصابه لكنه وجد صعوبة . فحلق بذهنه إلى الأعلى .. وتخيل أن الزمن يركض وهو يركض معه . ولا يعلم أن المستقبل الذي تعلق به سوف يخونه .. وسيصبح عنكبوتاً فاحما يُقطر دما رماديا على ثوبه الأبيض .. أحست رابحة أن سلطة الكلام تعطلت بينهما ، فأرادت أن تكسر الصمت عمدا ..
    ـــ مالك يا سي علال تغربل أفكارك ، بدون شك أن الدنيا ضاقت في وجهك. ولا تعلم أين تتجه ..؟ فأصبحت كالنملة التي تاهت ولم "تعقل" على غارها ..؟
    لم يرد سي علال بكلمة .. ولكن الدمع كان يقرص عينيه على مهل ؟ وبدا خوف كبير ينتصب أمامه .. فنشط الخيال في نسج أفكار سوداوية. أحس أن اللحظة تطارد جسده ، وتقبض على نفسه ...
    وما أن قتلت الشمس النجوم ، كان علال يناجي مياه البحر، ويقرأ تجاويف زرقتها . وكأن الأمواج تبتسم له بين الحين والآخر، فتوهم أن الزمن قد يأتي بالخصب ما بعده خصب .. قد ينزل من الأعلى دون عناء . كانت اللحظة تعصره ، وتضغط على أنفاسه ، فيمد حبلا من الآهات الدافئة . أحس أن ساعة عمره تدق على مهل، وتحث بندولها الهرم لدفع الزمن إلى الأمام ، وتصور أن الموت يجول في عمق البحر. فلم يعد الأمل يساور ذاكرته كما كان من قبل .. لا يتذكر أحدا سوى رابحة زوجته .
    فجأة هبت نفحة الحب القديم الذي جمعه برابحة .. زمن اللقاء الأول . وشجرة البلوط تشهد على ذلك ، إنه يوم موشوم على جذعها ، والزمن يغني خفية أغنية العرائس...؟
    منذ أن غادر سي علال المنزل ، أصبحت الوحدة تعتصر قلب رابحة ، وتجعله ينبض خفية .. يكاد أن يتوقف دفعة واحدة ، والهواجس الحمقاء تأكل ذهنها في تؤدة .. مضى اليوم يقضم سويعاته .. ودقات الساعة تقضم عمرها دقيقة دقيقة . لقد آمنت بليل لا ينتهي ..
    وقبل أن يدفن الصباح ظلمة ليل طال امتداده .. تخيلت يد علال تتحسس أنفاسها ، انتفض الماء في العروق ، فوجد الدم الدافئ مجراه .. فأحست بقيمة زوجها، ودوره في تدبير شؤون البيت ...
    أفاقت كالمجنونة .. صاحت بأعلى صوتها حتى سمعتها حيوانات البحر.. كفكفت دموعها ، مسحتها تباعا ، فسح الماء من جسدها باردا .. كسرت الوسادة ، بسطتها من جديد ، ضربتها ، ضغطت وضغطت .. لوحت بها بعيدا ، فتصاعدت الريح من صدرها .. وكادت نفسها تشرف على الخروج من جسمها... فقالت :
    ــ لماذا تركته يقاتل الزمن بمفرده .. يا لعناده ؟ لم يبتسم له الحظ ولو مرة واحدة .. من يدري ؟ قد يكون من المحظوظين الذين أفلتوا من تحت الرقابة .. كجارنا ولد الحشحوش الذي ذهب إلى هناك ولم يعد ...؟؟
    غدا ليل رابحة موسيقى صاخبة للروح .. عزف جـريح يثـقب الحيطان ، وتناغمت معها الطبيعة بجوها الحزين .. وكأن حدسها قد صدق .. فجاء السحاب بما اجتمع فيه من الما ء ، وأخذ يتحلب من الأرض.. ارتجف قلب رابحة مع الغصون ، فاعتصرتها الدهشة ... وتأكدت أن البحر يأتي بالإعصار على حين غرة ..
    مرت عشرة أيام ... وجاء إعلان التلفزة يحصي جثث قوارب الموت .. ويذكّر بالأسماء، ويعدّد الضحايا .. فتيقنت رابحة أن مخالب الموت أحبطت مبتغى علال . فتخضبت الدموع بالذكريات الأليمة ، وانسحب الدم عن وجهها .. شاع الخبر في الحي كالنار في الهشيم .. تجمّع الناس من حولها وتفرّقوا .. الكل يتذكر علال بقامته وسماحته . ومكانته داخل أسرته ومدشره . كانت رابحة تصغي إلى حشرجة أنفاسها ، وهي تتنفس صهدا حارا . فهمهمت وقالت :
    ــــ أ ّيامي كحلة .. البحر عدو.. قلتها لك يا علال ؟
    جلس قوم الحي تحت شجرة البلوط المجاورة لبيت علال وهم يتجاذبون الحديث دون تنظيم .. وبسرعة يقفزون على الأحداث ويفسرونها حسب أمزجتهم وثقافتهم البدوية ...؟ والسؤال الذي يكثر ترداده بين الخلائق البشرية ..
    ـــ أيغامر بنفسه ، إنه الحمق بعينيه .. ما كان عليه أن يهاجرإلى بلاد " برّى "..؟؟
    لم ينبس عمي حمو طاهر بكلمة .. ولكنه كان يكتفي بالسماع ويدعو بالرحمة لعلال الجنداري جهرا ، وكلما انقطع حوار القوم .. قال الفقيه بن موسى :
    ــ والله لقد قتله البحر بسرعة . و بقي في الشمس حتى انعطن جلده ... وفاحت رائحته .. ومات الدم في الجرح اليابس .
    سوّى حمّاد القدوشي عمامته .. وقال :
    ـــ سمعتهم يقولون في المقاطعة ، أن جثث قوارب الموت بقيت في الرمل منتشرة هنا وهناك تأكلها الغربان ....؟
    داخل البيت كانت رابحة تلملم جراحها .. ونسوة الدوار يصبرنها .. وفجأة قطع حبل تـفكيـرها صوت مبحوح .. فغدا ينبعث تباعا بين الحين والآخر من تحت بطانبة مخططة...
    ـــ أين أبي يا أمي ..؟
    صدمها الصوت، فأحست بذبيب قلق مفرط ينخر ذهنها.. وخوف شائك ينهش صدرها . فلم تعقب لأنها كانت متيقنة أن الرد سيكون مغتصبا . أطالت النظر في وجهها .. وقالت:
    ـــ نامي يا ابنتي .. فأنت لا تعرفين ؟ ستدركين أن دملا كامنة سوف تنفجر.. وتنفجر قبل الأوان ...؟
    غادر كل الناس البيت ولم يبق أحد معها .. فأحست رابحة بوخزات الزمن الآتي . فاهتز جسمها وبردت أطرافها .. عجزت عن البكاء .. فلا أحد يأخذ بيدها .. فما عليها إلا أن تكون صلبة ، تشد بأظافرها على الصخر طول امتداد حياتها .. ما يقلقها هو أنها ستدحرج صخرة الحياة وحدها .. فغداً لم يعد قدر يغرغر.. وغداً ستموت البسمة بمجرد النظر إلى مكان علال..؟
    اقتربت من ابنتها الصغيرة... دفست وجهها في صدرها، وتأكدت أن علال لم يكن هارباً من وطنه .. بل كان يحب بلده ، ولكن الجوع هو الذي رماه يعانق رمال البحر بعدما اغـتال الفقـر حياته .. رجّعت من صدرها زفيرا قويّا وقالت :
    ــ لا شك أنك يا سي علال....؟ لما رجّعت في حلقك الشهقة الأخيرة ،وددت لو عرفت إلى أية ضفة كنت تشير إليها بأصبعك ؟؟

    مكناس /20/10/2001

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,138
    المواضيع : 318
    الردود : 21138
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    يهربون من جحيم وطن ياكل أبناءه إلى بحر يأكل زواره
    هروب من الموت قهراً إلى الموت غرقاً
    هو نوع من الإنتحار غير المباشر في عرض البحر
    بدل من الموت جوعاً في بلاده
    نص قال الكثير في سرد بديع وحبكة سلسة تجذب القارئ
    حتى النهاية , وبناء درامي موفق جداً.
    لوحة لغوية راقية مفعمة بالإحساس لترسم بيد ماهر
    لوحة المعاناة المزدوجة للراحل والباقي.
    أحييك ودام إبداعك.

  3. #3
    الصورة الرمزية سامية الحربي أديبة
    غصن الحربي

    تاريخ التسجيل : Sep 2011
    المشاركات : 1,578
    المواضيع : 60
    الردود : 1578
    المعدل اليومي : 0.34

    افتراضي

    هم يجبرون على ركوب قوارب الموت ويعلمون أنه قد يكون بانتظارهم على الضفة الأخرى لكنه الهرب من قدر الموت حيا إلى بصيص من الأمل. سلم اليراع أديبنا الكريم.تحية وتقدير.

  4. #4
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    سرد رائع وتصوير مدهش لعالم الشّخصيّات الدّاخلي والخارجي، وعرض لمشكلة خطيرة وهي النّزوح عن الوطن بحنا عن حياة أفضل.. لملاقاة ما يقصي عن الحياة إلى الأبد
    يظلّ الوطن بما يؤلم أرحم من سكاكين الغربة
    قصّة هادفة
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  5. #5
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,368
    المواضيع : 200
    الردود : 2368
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نادية محمد الجابى مشاهدة المشاركة
    يهربون من جحيم وطن ياكل أبناءه إلى بحر يأكل زواره
    هروب من الموت قهراً إلى الموت غرقاً
    هو نوع من الإنتحار غير المباشر في عرض البحر
    بدل من الموت جوعاً في بلاده
    نص قال الكثير في سرد بديع وحبكة سلسة تجذب القارئ
    حتى النهاية , وبناء درامي موفق جداً.
    لوحة لغوية راقية مفعمة بالإحساس لترسم بيد ماهر
    لوحة المعاناة المزدوجة للراحل والباقي.
    أحييك ودام إبداعك.
    قراءة متميزة كعادتك أختي نادية .. شكراً على متابعتك وتفاعلك القيم مع النص ..
    شكراً على اهتمامك النبيل وكلمتك الطيبة ..
    تقديري واحترامي ..
    الفرحان بوعزة ..

  6. #6
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,368
    المواضيع : 200
    الردود : 2368
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غصن الحربي مشاهدة المشاركة
    هم يجبرون على ركوب قوارب الموت ويعلمون أنه قد يكون بانتظارهم على الضفة الأخرى لكنه الهرب من قدر الموت حيا إلى بصيص من الأمل. سلم اليراع أديبنا الكريم.تحية وتقدير.
    فعلا أختي الفاضلة .. غصن .. فرغم أن الموت يقف في وجوههم ،يغادرون الوطن لا حباً في بلد الغربة وإنما الحاجة هي الدافع الأساسي للرحيل ..
    مغامرة قد تكون في معظمها فاشلة ..
    تقديري واحترامي ..الفرحان بوعزة ..

  7. #7
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,368
    المواضيع : 200
    الردود : 2368
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاملة بدارنه مشاهدة المشاركة
    سرد رائع وتصوير مدهش لعالم الشّخصيّات الدّاخلي والخارجي، وعرض لمشكلة خطيرة وهي النّزوح عن الوطن بحنا عن حياة أفضل.. لملاقاة ما يقصي عن الحياة إلى الأبد
    يظلّ الوطن بما يؤلم أرحم من سكاكين الغربة
    قصّة هادفة
    بوركت
    تقديري وتحيّتي
    فعلا أختي، ألم الوطن يستصيغه الفرد ويتغلب عليه .. بل يستطيع أن يحوله إلى فرح وأمل وحياة ..
    لكن ألم الغربة يبقى موشوما في الذاكرة .. بل محفوراً في القلب والفكر ..
    تحياتي وتقديري أختي كاملة على هذه القراءة القيمة للنص ..
    اهتمام أعتز به .. الفرحان بوعزة ..

  8. #8
    الصورة الرمزية ربى يوسف قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Mar 2011
    المشاركات : 151
    المواضيع : 12
    الردود : 151
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    يهربون من الوطن قسراً .. فالوضـع المزري فيه يغلب العاطفة أحياناً ليهاجر منه
    بحث عن حياة كريمة لعلهم ينطلقون إلى الحياة ..
    لا يعلمـون ماذا يلاقيهم .. وما ينتظرهم ..
    للأسف واقعنا مرير ..
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  9. #9
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,368
    المواضيع : 200
    الردود : 2368
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ربى يوسف مشاهدة المشاركة
    يهربون من الوطن قسراً .. فالوضـع المزري فيه يغلب العاطفة أحياناً ليهاجر منه
    بحث عن حياة كريمة لعلهم ينطلقون إلى الحياة ..
    لا يعلمـون ماذا يلاقيهم .. وما ينتظرهم ..
    للأسف واقعنا مرير ..
    قراءة قيمة أختي الفاضلة والمبدعة المتألقة .. ربى يوسف ..
    شكراً على تفاعلك القيم والمتميز مع النص ..
    شكراً على اهتمامك النبيل وكلمتك الطيبة .. كلمة أعتز بها ..
    تقديري واحترامي ..
    الفرحان بوعزة ..

  10. #10
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    في الركون للعيش مقبورين هدأة موات، وفي ركوب البحر مقامرة بالحياة، وبينهما تتأرجح الخيارات

    قص إنساني هادف بأداء مكين كما عودتنا أديبنا الرائع، وغوص في جوانيات الشخوص وعوالم صراعاتها على المستوين الداخلي والخارجي، في سرد شائق وبراعة تصوير للمشهد بتداعيات أحداثه

    دمت بخير

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. الاختيار الصعب ... أول قصة يخطها قلمي في حياتي .
    بواسطة صابرين الصباغ في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 22
    آخر مشاركة: 21-11-2021, 05:22 PM
  2. الاختيار رغم المطر
    بواسطة جوتيار تمر في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 70
    آخر مشاركة: 26-08-2008, 08:28 PM
  3. قيادات بلادنا :أزمات ومطبات قراءة في السلوكيات وطرق الاختيار
    بواسطة د.مصطفى عطية جمعة في المنتدى الحِوَارُ المَعْرِفِي
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 09-05-2007, 10:47 PM
  4. لَكِ الاختيار
    بواسطة إكرامي قورة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 29
    آخر مشاركة: 23-03-2007, 01:45 PM
  5. مشاركه بعد حيره في الاختيار
    بواسطة رائد السياب في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 30-12-2002, 04:21 AM