أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 12

الموضوع: الغــربــــــــاء

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2011
    الدولة : مصر
    العمر : 46
    المشاركات : 837
    المواضيع : 233
    الردود : 837
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي الغــربــــــــاء

    الغــربــــــــاء

    لملمته دروبها الحزينة في صمتها وظلامها..
    جثم على رئتيه هواؤها المشبع بالقهر..
    وفوق ترابها الأسير، تردّدت خطواته الرتيبة التي بدت كأنّها تحرّك أشلاء وليس جسدا ينبض بالحياة.
    لم يعد يحلم منذ أن جاء الغرباء..
    أنفاسهم العطنة تفسد المذاق البكر للحياة، وأحذيتهم الثقيلة لا تفرّق بين الحصى والبراعم وأحلام الصغار.
    في كلّ بيت منهم جرح، ما بين القتل والإهانة والاعتقال.
    وها هم أولئك يجرّرون صديق عمره، مكبلا بالقيود ويلقونه في شاحنتهم وينطلقون إلى المجهول.
    وهو يعرفه: لم يكن أكثر من فنان يحلم.
    أنّى له إذن أن يدبر عمليات المقاومة ضدّهم كما يزعمون؟
    ولكنّهم لا يحتاجون إلى دليل.. وشاية أيّ حقير تكفي!
    لو أنّ صديقه فعلا قد تغلب على رهافة حسّه وانتمى للمقاومة، لما اندهش!
    ***
    لم يعد يحلم منذ أن جاء الغرباء..
    لأنّه ببساطة: لم يعد ينام!
    جلس في عتمة الليل مسندا ظهره إلى الحائط المواجه للباب، ويده تلوذ بمسدسه الصغير.
    كلّ ليلة كان ينتظرهم.. كان يعرف أنّهم سيأتون.
    ليس بيته أوّل أو آخر بيت يدنسونه، وهو لا يمكن أن يسمح لهم بهذا.
    هذا آخر مكان يمكن لهم أن يطأوه وهو على قيد الحياة.
    نهض ليتأكّد من أنّ صغيره قد غفا في حضن أمّه.
    ثمّ عاد ليجلس في مواجهة الباب.
    ***
    انتفض فجأة في ذعر عندما شعر بتلك اليد على كتفه..
    ولكنّ زوجته ربتت على كتفه وسألته بإشفاق:
    - ألا يجب عليك أن تريح جسدك المنهك؟
    شعر بالغضب من نفسه.. يبدو أنّ سِنَة قد أخذته فغفا لحظة.
    رفع لها عينين حمراوين خجلتين، وأراد أن يقول شيئا.
    ولكن شيئا ما اضطرب في ذهنه فجأة ومادت به الأرض.
    أغمض عينيه وهزّ رأسه بعنف ثمّ فتحهما.
    كابوس هو حتما.
    كان ذلك العلج ينتزع صغيره المذعور من حضن أمّه، وآخر يتقدّم نحوها.
    انتـفض نحوهما.. فقط ليكتشف أنّ وغدين يشلان حركته تماما، وأنّ يديه مقيدتان خلف ظهره.
    خفق قلبه بسرعة والذهول يكتنف عقله.
    كابوس هو؟.. أليس كذلك؟
    عدّة ليالٍ لم ينم.. لعلّه سقط في النوم رغما عنه، وتجسدت مخاوفه في صورة هذا الكابوس.
    صرخت زوجته صرخة مذعورة، فانفجرت كلّ أفكاره، وتهاوت عن مشهد ذلك العلج وهو يعتدي على عِرضه.
    هزّ رأسه غير مصدّق.
    هذا كابوس.. كابوس.. كابوس.
    ردّدها لنفسه مرارا دون جدوى.
    سنوات من الذكريات تداعت في ذهنه في ثانية واحدة.. كلّها أكّدت له أنّهم يقتلون أجمل ما فيه.
    هنا صرخ صرخة مريعة، وتملّص من العلجين اللذين يكبلانه بقوّة لم يتوقعاها.
    واندفع رغم قيوده لينقذ عرضه.
    ولكنّ ذلك العلج الذي كان يمسك صغيره تركه واعترض طريقه.
    صدم العِلج بقوّة، فدفعه للخلف ليصطدم بالحائط.. ولكنّ زميليه انقضا عليه من الخلف وشلا حركته مجدّدا.
    لم يستسلم.. زأر في جنون وحاول التملص منهما.
    ولكنّ ضربة بسلاح أحدهما على رأسه أنهت كلّ شيء!
    ***
    لم يمت.
    حتّى الموت ضنّوا به عليه!
    أفاق ليجد نفسه ملقى على أرض بيته المدنس، وبقعة من الدماء متجمدة على رأسه.
    وتناهى إلى مسامعه صوت عَبرات تسيل على خدّ امرأته.. أحرقت كالنار قلبه.
    ولكنه لم يلتفت.
    لم يعرف ماذا يمكن أن يحدث لو التقت عيناه بعينيها في تلك اللحظة.
    لم يكن يريد أن يرى فيهما رجولته التي انكسرت.
    ولم يعرف كيف غادر بيته.
    ولا كيف عادت تلملمه دروب بلدته الثكلى في صمتها وظلامها.
    جثم على رئتيه هواؤها المشبع بالقهر..
    وفوق ترابها الأسير، تردّدت خطواته الرتيبة التي بدت كأنّها تحرّك أشلاءً وليس جسدا ينبض بالحياة.
    لم يعد يحلم منذ أن جاء الغرباء.. ببساطة: لأنّه كان يعيش كابوسا مزعجا بلا انتهاء.
    كان عقله يحترق..
    قلبه يحترق..
    كِيانه يحترق..
    أحس أنّه لو لم يُخرج هذه الطاقة كلّها فسينفجر.
    ولهذا انطلق يعدو فجأة.
    انطلق بسرعة محمومة، قفزت بدرجات قلبه إلى الذروة.
    وكلّ ما كان في ذهنه ساعتها، صورة حِصان بريّ يمزّق قيوده وينطلق كالرياح.
    انطلق يعدو ويعدو..
    يعرقله هواؤها اللزج ولكنّه يعدو..
    يجثم عليه القهر والقيد فيعدو..
    تبتلعه غُصص الظلام، ويضلّله الليل إلا إنّه ظلّ يعدو..
    لم ينتبه إلى أنّه يتجه إلى منطقة محظورة..
    أوّ أنّه انتبه ولم يبالِ..
    ومنذ متى كانت هناك مناطق محظورة عليه في بلده؟
    ومن أعطى للغرباء الحقّ أن يحدّدوا ما هو مسموح وما هو محظور؟
    ازداد غضبه، فازدادت سرعته.
    تجنّح الحصان في ذهنه ليحلّق في سمائه الأبيّة، حول المآذن الشامخة.
    إنّه حرّ..
    لم يكن يوما عبدا لهم.. ولن يكون.
    سُحقا لهم وسَحقا.
    ***
    فجأة اختلّ توازنه..
    شيء ما عرقله، فسقط في عنف وتدحرج أرضا..
    زأر الغضب في أعماقه، ونهض يهدر.
    ولكن رجلين ملثمين كبلا حركته وكمّما فمه وجذباه قسرا إلى بيت قريب.
    وبينما يلهث في غضب نظر لهما.
    شيء ما في نظرة أعينهما هبط بردا وسلاما عليه.
    تبادل معهما النظرات لحظات في صمت.. ثمّ مدّ أحدهم إليه يده بمدفع رشاش، قائلا:
    - لعلك كنت تبحث عن هذا!
    ***
    عرف أخيرا من هو وأين تقف دوريته..
    ذلك الحقير الذي ذبح عرضه.
    وجد أربعتهم معا.. عند ذلك الحاجز الذي يمزّق أرضه الحرّة، يدخنون ويتبادلون نكاتا بذيئة وضحكات ماجنة.
    كان يقترب، فأشاروا له بالتوقّف، وهم يشهرون أسلحتهم في تحفز.
    لم يبد على أحدهم أنّه تذكّره، فلا ريب أنّ الجميع لديهم بلا ملامح!
    توقّف وهو يرفع يديه عاليا، ليقترب منه ذلك الذي ذبح عرضه.
    لم يكن يحلم بأكثر من هذا.
    في سرعة البرق لوى معصمه لينتزع خنجرا أخفاه في كمّه، وبضربة واحدة كان يغمده في عنق ذلك العلج.
    لم يكن متوحشا.. ولكنّه أقسم في نفسه إنّه لم يرَ في حياته أبدع من جحوظ عيني هذا الدنيء وهو يحدقّ فيه في ذهول ويجاهد لارتشاف الهواء.
    وصرخ الجنود في ذعر وصوّبوا أسلحتهم نحوه.
    ولكنّه لم يأبه بهم.. بل حرّك خنجره فجأة بعنف ليبتر ذلك الرأس عن منبته، ليسقط متدحرجا على أرض تكرهه.
    هنا أفاق الجنود من ذهولهم، وهتف واحد منهم:
    - أطلقوا النار.
    ولكنّ النار انطلقت عليهم من كلّ صوب، فحصدت اثنين منهم، بينما احتمى الثالث خلف الساتر.
    ومع دويّ الرصاصات، تصاعدت صفارات الإنذار وسمع هدير مركبات تقترب، وجنود يهرولون إلى الموقع.
    ولكنّه بدلا من أن يهرب، قفز صوبهم.
    استقبلته رصاصاتهم، فلم ترهبه، ولم يشعر لها بألم في ذراعه ولا في ساقه ولا في صدره.
    كان فاقد الإحساس إلا بكرامته..
    وبذلك الحزام حول وسطه.
    وفي قفزة أخيرة سقط خلف الساتر، فصرخ العلج الرابع في هلع، وهو يجده أمام وجهه.
    وفي قسوة نظر في عينيه وهو يجمجم:
    - إلى الجحيم.
    ودوّى انفجار عنيف، ليجتث كلّ العلوج من فوق أرضه الطاهرة.
    ***
    لجمت دموعها بقوّة فولاذيّة.. فليس في يوم كهذا تسكب الدموع.
    إنّها اليوم عروس بطل.. عروس شهيد.
    مات ليعيد إليها شرفها السليب.
    امتلأ قلبها بصورته، ورفّت بسمة حزينة على شفتيها.
    كان أجمل شيء في حياتها.. وسيظل.
    اتجهت إلى صوانها وأخرجت كوفيته، وأشارت لصغيرها فاقترب منها..
    لفّتها حول عنقه باعتزاز.
    لم يمت البطل بعد.. ما دام هناك بطل من صلبه ينتظر دوره ليخضب بدمائه أرضه الحرّة.. أرض آبائه وأجداده.
    إنْ هذه إلا بداية.
    مجرّد بداية.
    واحتضنت بطلها في قوّة.
    ***
    محمد حمدي غانم
    29/1/2004


  2. #2
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    أخي الشاعر محمد حمدي غانم
    قرات قصتك و رأيت علامات الشعر تبرز من بين سطورها..
    هي قصّة لمن عانى من الذل والاستعباد..حين يقتل الطفل و يعتقل المبدع الفنان كما ذكرت في قصتك..كان لا بدّ لبطل القصة أن ينتقم ولو بعد حين بعد أن استحضر أمامه أطياف العذاب على أيدي " الغرباء" حين قتلوا وعذبوا وانتهكوا الأعراض..فلم يجد الا أن ينهي حياتهم وحياته بفدائيةٍ لا تبقي ولا تذر..
    استوقفني استاذنا الكريم تكرارٌ في قصتك ورد في بداية القصة وفي وسطها..وهو قولك
    "جثم على رئتيه هواؤها المشبع بالقهر..
    وفوق ترابها الأسير، تردّدت خطواته الرتيبة "
    وهو مقطع لا شك جميلٌ و معبّر لكن ما الحكمة من تكراره؟
    أعجبتني التعابير القوية ،وليست بدْعاً حين تكون من شاعر!

    مع وافر تحياتي
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

  3. #3
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2011
    الدولة : مصر
    العمر : 46
    المشاركات : 837
    المواضيع : 233
    الردود : 837
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    شكرا لتقديرك وتحليلك الجميل للنص أ. عبد السلام..
    بالنسبة للتكرار، فهو نقطة محورية في القصة، تضع أمام القارئ مقارنة بين الحالتين، وكيف يحدث التغيير في الشخصية.. وهو نوع من الاسترجاع السينمائي Flash Back متداخل مع الحدث الراهن..
    وأتفق معك أن هذه القصة تميل إلى الشاعرية، لأن رسالتها عاطفية بالأساس، هدفها إيصال هذا الشعور الجامح بالقهر والاختناق والغضب والانتقام.. وهي مختلفة عن باقي قصصي التي سأنشرها هنا قريبا بإذن الله، والتي تعتمد في معظمها على الحوار المسرحي، وليس السرد الشاعري.
    تحياتي

  4. #4
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.10

    افتراضي

    ماكتبته أخي محمد كان نسانيا يمس قلب كل مسلم بأذى على إخوانهم الذين يذبحون ويُغربون وتنتهم أعراضهم فحسبنا الله عليهم ونعم الوكيل
    أعجبتني القصة وربما أني لاأؤيد تفجير نفسه فذاك شبه بانتحار والجهاد هو قتل العدو بالأداة التي معه سواء أن يرمي قنبلة عليهم او بسيف او برشاش أو غيره
    شكرا لك

  5. #5
    الصورة الرمزية مصطفى حمزة شاعر
    تاريخ التسجيل : Apr 2012
    الدولة : سوريا - الإمارات
    المشاركات : 4,424
    المواضيع : 168
    الردود : 4424
    المعدل اليومي : 1.00

    افتراضي

    أخي الأكرم ، الأستاذ محمد
    أسعد الله أوقاتك
    من أجمل ما قرأت ، ومن أشدها تأثيراً في النفس
    قصّة الإنسان الوحش الذي جاء لينشر ( حضارته ) التي يدّعي .. فعاد هناك إلى مجرم وحش!
    اغتصاب امرأة أمام زوجها وطفلها !
    وانتقام الزوج الأب بما استطاع .. بروحه ..
    في بلادهم يربّون ( المواطن ) الصالح الذي لا يعرف الصلاح خارجه ، ولا بأس لديهم في ذلك ...
    والإسلام يُربّي ( الإنسان ) الصالح الذي يحمل صلاحه حيثما ذهب .. فتأملوا من عليه أن يُحضّر مَنْ ؟..
    انساب السرد في القصّة في صراعٍ مستمرّ ، صراع داخليّ في كيان البطل ... الزوج المذبوح بوطنه وعرضه
    ولعب الاسترجاع دور الوَقود في تأجيج هذا الصراع
    والإثارة فائقة في القصّة ، إثارة في الفكرة الحدث الرئيس أولاً ، وفي تصاعد الأحداث بعد ذلك حتى لحظة الاستشهاد البطوليّ
    عرفنا الشخوص جيّداً رأيناها وسمعناها وعشنا معها من خلال الوصف الطبيعيّ الرائع ، ومن خلال الحوار .. والأروع في النصّ
    أن الكاتب / الشاعر المبدع لم نره ولم يتدخل ولو بشرح بسيط أو بتوضيح بكلمة .. وهذا ما ملّك القارئ النصّ من أوله إلى آخره
    - أنا لستُ مع الكاتب الفذ حيثُ قال عن الزوجة الأم المغتصبة : ( مات ليعيد إليها شرفها السليب ) فشرفها لم يُسلب ، وهي بقيت
    شريفة ، بل زادها اغتصاب عرضها شرفاً على شرف .. لقد سُرقت بمنطق القوة الحيوانيّة ، فما ذنبها ؟ هل نلوم ونجرّم شخصاً
    سرقوا ماله ؟
    لقد سُلبت هذه الماجدة - كما سُلبت أختها في الشام والبوسنة والهرسك وفي غيرها - أغلى ما عندها ، بين جدران بيتها ، في حجابها
    تحت عين زوجها وأولادها ، وربما كانت على وضوء .. وقبل قليل كانت تسجد لله الواحد ... فهي أشرف الشريفات في الدنيا ، ولم يكتب
    لها الله إلاّ أجر الصبر والمجاهدة ..
    - وأنا أيضاً لستُ مع أختنا براءة حين صرّحت فيما يُشبه الفتوى بأن ما فعله الزوج النبيل من تفجير نفسه هو انتحار أو شبيه بالانتحار .. فلقد
    سبق لعلماء الأمّة الصادقين أن أفتوا بذلك أنّه استشهاد .
    دمتَ ودام النبلُ والإبداع ينساب من قلمك المبدع
    تحياتي
    اللهمّ لا تُحكّمْ بنا مَنْ لا يخافُكَ ولا يرحمُنا

  6. #6
    الصورة الرمزية حارس كامل أديب
    تاريخ التسجيل : Jan 2013
    الدولة : مصر
    المشاركات : 571
    المواضيع : 66
    الردود : 571
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    نص شاعري مبدع ملئ بالحوار الداخلي والتعابير الانسانية والوجدانية ...وايضا قصة من قصص المقاومة التي دائما مانرتبط بها عاطفيا ...
    ولجت القصة الي القلب مباشرة
    انا مع رأي اخي مصطفي ان مقاومة الاعداء تكون بأي شكل طالما كانت بعيدة عن الاطفال والنساء والاشخاص العزل ...
    تحياتي

  7. #7
    الصورة الرمزية محمد الشرادي أديب
    تاريخ التسجيل : Nov 2012
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 721
    المواضيع : 35
    الردود : 721
    المعدل اليومي : 0.17

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد حمدي مشاهدة المشاركة
    الغــربــــــــاء

    لملمته دروبها الحزينة في صمتها وظلامها..
    جثم على رئتيه هواؤها المشبع بالقهر..
    وفوق ترابها الأسير، تردّدت خطواته الرتيبة التي بدت كأنّها تحرّك أشلاء وليس جسدا ينبض بالحياة.
    لم يعد يحلم منذ أن جاء الغرباء..
    أنفاسهم العطنة تفسد المذاق البكر للحياة، وأحذيتهم الثقيلة لا تفرّق بين الحصى والبراعم وأحلام الصغار.
    في كلّ بيت منهم جرح، ما بين القتل والإهانة والاعتقال.
    وها هم أولئك يجرّرون صديق عمره، مكبلا بالقيود ويلقونه في شاحنتهم وينطلقون إلى المجهول.
    وهو يعرفه: لم يكن أكثر من فنان يحلم.
    أنّى له إذن أن يدبر عمليات المقاومة ضدّهم كما يزعمون؟
    ولكنّهم لا يحتاجون إلى دليل.. وشاية أيّ حقير تكفي!
    لو أنّ صديقه فعلا قد تغلب على رهافة حسّه وانتمى للمقاومة، لما اندهش!
    ***
    لم يعد يحلم منذ أن جاء الغرباء..
    لأنّه ببساطة: لم يعد ينام!
    جلس في عتمة الليل مسندا ظهره إلى الحائط المواجه للباب، ويده تلوذ بمسدسه الصغير.
    كلّ ليلة كان ينتظرهم.. كان يعرف أنّهم سيأتون.
    ليس بيته أوّل أو آخر بيت يدنسونه، وهو لا يمكن أن يسمح لهم بهذا.
    هذا آخر مكان يمكن لهم أن يطأوه وهو على قيد الحياة.
    نهض ليتأكّد من أنّ صغيره قد غفا في حضن أمّه.
    ثمّ عاد ليجلس في مواجهة الباب.
    ***
    انتفض فجأة في ذعر عندما شعر بتلك اليد على كتفه..
    ولكنّ زوجته ربتت على كتفه وسألته بإشفاق:
    - ألا يجب عليك أن تريح جسدك المنهك؟
    شعر بالغضب من نفسه.. يبدو أنّ سِنَة قد أخذته فغفا لحظة.
    رفع لها عينين حمراوين خجلتين، وأراد أن يقول شيئا.
    ولكن شيئا ما اضطرب في ذهنه فجأة ومادت به الأرض.
    أغمض عينيه وهزّ رأسه بعنف ثمّ فتحهما.
    كابوس هو حتما.
    كان ذلك العلج ينتزع صغيره المذعور من حضن أمّه، وآخر يتقدّم نحوها.
    انتـفض نحوهما.. فقط ليكتشف أنّ وغدين يشلان حركته تماما، وأنّ يديه مقيدتان خلف ظهره.
    خفق قلبه بسرعة والذهول يكتنف عقله.
    كابوس هو؟.. أليس كذلك؟
    عدّة ليالٍ لم ينم.. لعلّه سقط في النوم رغما عنه، وتجسدت مخاوفه في صورة هذا الكابوس.
    صرخت زوجته صرخة مذعورة، فانفجرت كلّ أفكاره، وتهاوت عن مشهد ذلك العلج وهو يعتدي على عِرضه.
    هزّ رأسه غير مصدّق.
    هذا كابوس.. كابوس.. كابوس.
    ردّدها لنفسه مرارا دون جدوى.
    سنوات من الذكريات تداعت في ذهنه في ثانية واحدة.. كلّها أكّدت له أنّهم يقتلون أجمل ما فيه.
    هنا صرخ صرخة مريعة، وتملّص من العلجين اللذين يكبلانه بقوّة لم يتوقعاها.
    واندفع رغم قيوده لينقذ عرضه.
    ولكنّ ذلك العلج الذي كان يمسك صغيره تركه واعترض طريقه.
    صدم العِلج بقوّة، فدفعه للخلف ليصطدم بالحائط.. ولكنّ زميليه انقضا عليه من الخلف وشلا حركته مجدّدا.
    لم يستسلم.. زأر في جنون وحاول التملص منهما.
    ولكنّ ضربة بسلاح أحدهما على رأسه أنهت كلّ شيء!
    ***
    لم يمت.
    حتّى الموت ضنّوا به عليه!
    أفاق ليجد نفسه ملقى على أرض بيته المدنس، وبقعة من الدماء متجمدة على رأسه.
    وتناهى إلى مسامعه صوت عَبرات تسيل على خدّ امرأته.. أحرقت كالنار قلبه.
    ولكنه لم يلتفت.
    لم يعرف ماذا يمكن أن يحدث لو التقت عيناه بعينيها في تلك اللحظة.
    لم يكن يريد أن يرى فيهما رجولته التي انكسرت.
    ولم يعرف كيف غادر بيته.
    ولا كيف عادت تلملمه دروب بلدته الثكلى في صمتها وظلامها.
    جثم على رئتيه هواؤها المشبع بالقهر..
    وفوق ترابها الأسير، تردّدت خطواته الرتيبة التي بدت كأنّها تحرّك أشلاءً وليس جسدا ينبض بالحياة.
    لم يعد يحلم منذ أن جاء الغرباء.. ببساطة: لأنّه كان يعيش كابوسا مزعجا بلا انتهاء.
    كان عقله يحترق..
    قلبه يحترق..
    كِيانه يحترق..
    أحس أنّه لو لم يُخرج هذه الطاقة كلّها فسينفجر.
    ولهذا انطلق يعدو فجأة.
    انطلق بسرعة محمومة، قفزت بدرجات قلبه إلى الذروة.
    وكلّ ما كان في ذهنه ساعتها، صورة حِصان بريّ يمزّق قيوده وينطلق كالرياح.
    انطلق يعدو ويعدو..
    يعرقله هواؤها اللزج ولكنّه يعدو..
    يجثم عليه القهر والقيد فيعدو..
    تبتلعه غُصص الظلام، ويضلّله الليل إلا إنّه ظلّ يعدو..
    لم ينتبه إلى أنّه يتجه إلى منطقة محظورة..
    أوّ أنّه انتبه ولم يبالِ..
    ومنذ متى كانت هناك مناطق محظورة عليه في بلده؟
    ومن أعطى للغرباء الحقّ أن يحدّدوا ما هو مسموح وما هو محظور؟
    ازداد غضبه، فازدادت سرعته.
    تجنّح الحصان في ذهنه ليحلّق في سمائه الأبيّة، حول المآذن الشامخة.
    إنّه حرّ..
    لم يكن يوما عبدا لهم.. ولن يكون.
    سُحقا لهم وسَحقا.
    ***
    فجأة اختلّ توازنه..
    شيء ما عرقله، فسقط في عنف وتدحرج أرضا..
    زأر الغضب في أعماقه، ونهض يهدر.
    ولكن رجلين ملثمين كبلا حركته وكمّما فمه وجذباه قسرا إلى بيت قريب.
    وبينما يلهث في غضب نظر لهما.
    شيء ما في نظرة أعينهما هبط بردا وسلاما عليه.
    تبادل معهما النظرات لحظات في صمت.. ثمّ مدّ أحدهم إليه يده بمدفع رشاش، قائلا:
    - لعلك كنت تبحث عن هذا!
    ***
    عرف أخيرا من هو وأين تقف دوريته..
    ذلك الحقير الذي ذبح عرضه.
    وجد أربعتهم معا.. عند ذلك الحاجز الذي يمزّق أرضه الحرّة، يدخنون ويتبادلون نكاتا بذيئة وضحكات ماجنة.
    كان يقترب، فأشاروا له بالتوقّف، وهم يشهرون أسلحتهم في تحفز.
    لم يبد على أحدهم أنّه تذكّره، فلا ريب أنّ الجميع لديهم بلا ملامح!
    توقّف وهو يرفع يديه عاليا، ليقترب منه ذلك الذي ذبح عرضه.
    لم يكن يحلم بأكثر من هذا.
    في سرعة البرق لوى معصمه لينتزع خنجرا أخفاه في كمّه، وبضربة واحدة كان يغمده في عنق ذلك العلج.
    لم يكن متوحشا.. ولكنّه أقسم في نفسه إنّه لم يرَ في حياته أبدع من جحوظ عيني هذا الدنيء وهو يحدقّ فيه في ذهول ويجاهد لارتشاف الهواء.
    وصرخ الجنود في ذعر وصوّبوا أسلحتهم نحوه.
    ولكنّه لم يأبه بهم.. بل حرّك خنجره فجأة بعنف ليبتر ذلك الرأس عن منبته، ليسقط متدحرجا على أرض تكرهه.
    هنا أفاق الجنود من ذهولهم، وهتف واحد منهم:
    - أطلقوا النار.
    ولكنّ النار انطلقت عليهم من كلّ صوب، فحصدت اثنين منهم، بينما احتمى الثالث خلف الساتر.
    ومع دويّ الرصاصات، تصاعدت صفارات الإنذار وسمع هدير مركبات تقترب، وجنود يهرولون إلى الموقع.
    ولكنّه بدلا من أن يهرب، قفز صوبهم.
    استقبلته رصاصاتهم، فلم ترهبه، ولم يشعر لها بألم في ذراعه ولا في ساقه ولا في صدره.
    كان فاقد الإحساس إلا بكرامته..
    وبذلك الحزام حول وسطه.
    وفي قفزة أخيرة سقط خلف الساتر، فصرخ العلج الرابع في هلع، وهو يجده أمام وجهه.
    وفي قسوة نظر في عينيه وهو يجمجم:
    - إلى الجحيم.
    ودوّى انفجار عنيف، ليجتث كلّ العلوج من فوق أرضه الطاهرة.
    ***
    لجمت دموعها بقوّة فولاذيّة.. فليس في يوم كهذا تسكب الدموع.
    إنّها اليوم عروس بطل.. عروس شهيد.
    مات ليعيد إليها شرفها السليب.
    امتلأ قلبها بصورته، ورفّت بسمة حزينة على شفتيها.
    كان أجمل شيء في حياتها.. وسيظل.
    اتجهت إلى صوانها وأخرجت كوفيته، وأشارت لصغيرها فاقترب منها..
    لفّتها حول عنقه باعتزاز.
    لم يمت البطل بعد.. ما دام هناك بطل من صلبه ينتظر دوره ليخضب بدمائه أرضه الحرّة.. أرض آبائه وأجداده.
    إنْ هذه إلا بداية.
    مجرّد بداية.
    واحتضنت بطلها في قوّة.
    ***
    محمد حمدي غانم
    29/1/2004

    أخي محمد

    هذا النص يجسد قولة بودلير بامتياز - أكتب الشعر حتى و أنت تكتب النثر. نص شاعري عمق الإحساس بأجواء النص المثقلة بغدر المستعمر و جشعه و وحشيته و انعدام أخلاقه. لكن المستعمر أخذ الدرس من أن الكريم لا يقبل الإهانة و روحه أرخص بكثير من عرضه. لا يتنازل أبدا عن الثأر ممن نال من شرفه.
    تحياتي أخي على هذا النص الموجع.

  8. #8
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2011
    الدولة : مصر
    العمر : 46
    المشاركات : 837
    المواضيع : 233
    الردود : 837
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    أ. براءة الجودي:
    شكرا لتقديرك..
    الانتحار هو قتل النفس يأسا من رحمة الله واعتراضا على قدره.. هذا لا يتوفر في العمليات الحربية، وإلا لاعتبرنا كل جندي يحارب عدوا أقوى منه منتحرا، لأن الموت محقق.
    والله أعلم.

    أ. مصطفى حمزة:
    أثرت فيّ كلماتك الحارة الصادقة بشدة.. وأحييك من كل قلبي.
    مع ملاحظة أنني لم أصفها بالخيانة.. لكن في الثقافة العربية الاعتداء على الأعراض سلب للشرف لا يعيده إلا الدم.
    شكرا لك.

    أ. حارس كامل:
    شكرا لتقديرك..
    شهادة أعتز بها.
    تحياتي

    أ. محمد الشرادي:
    صدقت في أن المحتل تلقى الدرس بقوة في كل بلادنا.. وهم الآن يدفعون الثمن انهيارا اقتصاديا ويتأرجحون على حافة الإفلاس..
    شكرا لتقديرك..
    تحياتي

  9. #9
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,137
    المواضيع : 318
    الردود : 21137
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    رائع ما كتبت هنا أيها الشاعر وموجع ـ نص شاعرى أمتعنا كل حرف فيه
    بقى أمر واحد ..الأمر يكون أكثر إيلاما عندما نجد أن من يفعل
    كل ذلك هم .. ليسوا غرباء .. بل من بنى جلدتك .. حارب الليبيون جيوش القذافى
    التى فعلت ما لم يفعله الغرباء ( الطليان ـ الأنجليز ) من قتل وتشريد وتعذيب وإغتصاب
    ومازال ما يحدث فى سوريا , وما نرى على الشاشات كل يوم يشيب الرضيع فى مهده ..
    ترى لو كتب قلمك الشاعرى الرائع هذا فى أفاعيل الغير غرباء .. ماذا سيجل لنا ..
    أغفر لى خروجى عن نصك ولكنها كلمة شعرت بها فقلتها .
    تحياتى وتقديرى .

  10. #10
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2011
    الدولة : مصر
    العمر : 46
    المشاركات : 837
    المواضيع : 233
    الردود : 837
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    شكرا لتقديرك أ. نادية..
    هؤلاء أيضا غرباء، محتلون لبلادنا مستعبدون لشعوبنا، لهذا ثثارت عليهم ولفظتهم..
    تحياتي

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة