أنين الصمت
بينما نحن جلوسٌ عِندَ بابِ بيتنا بعدما أنعم الله علينا بأداء الصلاة في المسجد قبلَ أن كنا على فترةٍ من الزمن لا يمكن لنا الاقتراب منهُ حتى لا نُأخذُ عنوةً إلى السجون والمحاجر السرية العسكرية والى ..والى..ألخ
وحديثُنا يطولُ وتارةً يقصُر على ما يؤوُلُ بهِ مطافهُ ؛ فسألتهُ بخضمِ الحديث الذي كنا فيهِ لِمَا أنزل اللهُ هذا الهولَ فيما قد يتصورهُ البعض أنها محنةٌ لكنها لدى عباد الله منحةٌ من المحبة والتقرب ؛ لأن العبدَ لا يعرف ما هي الدرجات العليا لتقربِ إلى الله وكما قالوا في الأثر: ((إن الله ليرفع العبدَ درجةً يقربها بهِ لأنهُ يستحقها دون علمهِ فيبتلهِ الله تباركَ وتعالى ليزكيهِ أولاً ومن ثَمَ يزيدُ في التضرعِ بأنواعٍ من العبادات لكن عطاءُ ربكَ خير...)) ؛ فقلت لهُ : ألم ترى أن الحياة مقسمَةٌ بأزمنةٍ كالفصول لا يمكنُ لأيٍ منها أن يتداخل مع الأخر إلى بتقدير الله عز وجل .؟!
فرد لي بجوابٍ أشبه بالتطفل قائلاً : لا يوجد في الحياة كالذي تقول! هذهِ تصوراتٍ لا يعقلها عاقل فكيف توصلت لمثلِ هذا ..؟!
فأجبتهُ : سأعطيكَ بعضاً من الصور التي نعيشها كل يومٍ من حياتنا فمثلاً خذ من هذا الزمن الذي نحنُ فيهِ أليسَ هو أشبهُ بفصل الخريف الموحِش كلُ شيءٍ بهِ متجرد من المشاعرِ وملحقاتها لا تسود فيهِ إلا الفتنةُ وما صاحَبَها من شكوكٍ نفسيةٍ بين الصاحبُ و صاحبهِ وكذلك العائلةُ مع بعضها البعض فلا يطمأنُ بهِ إلا المتمسك بحبل الله ؛ وهناكَ زمانٌ كفصل الشِتاء وهذا وليد ذاكَ الذي سبقهُ فهذا تجد فيهِ التحفظ والتخوف والهدوء ولا بدَ لمن يتحرك بداخلهِ أن يتحرك بوقارٍ وسكينة متناهيين خوفَ أن ينزلق بهاويةٍ إن كان في مكانٍ مرتفعٍ أو أن لا يسقط بهوةٍ إن كان يمشي فوق السهل الممتنع ؛ وهناكَ زمانٌ كفصل الصيف لمِا تلاحظ فيهِ من تنافر بين أفراد المجتمع لا عن كرهِ أو أخواتها لكن ترى كلُ واحدٍ منهم يعمل بجدٍ دون كللٍ حتى يستعد لمن كان قبلهُ أو الذي يأتي بعدهُ ؛ وهناكَ زمانٌ كالربيع الذي لا يمكن أن نقول عنهُ فصلٌ لأننا نود أن لا ينتهي و أيضاً لأنهُ قليلُ التواجد على سطح الأرض فلذالك نذكرهُ بتجردِ لأنهُ يحبنا ونحبهُ فتجدُ لذتهُ تدوم أَكثرُ من أيِ فعلٍ من أُولئِكَ السابقين لأنهُ الحب ..الحب .. الذي بهِ تنعم الأُمم بالأُلفةِ والأخوةُ الإنسانية العليا هذا الذي إن ذكرتهُ فلا بد أن تسيل على خديك الدموع تعبيراً أو ترى الصمتُ أبلغُ تارةً أو آهٍ كاللظى بكلِ ما تحملهُ من معنىً تارةً أُخرى...؛ فالأشخاصُ كذالك يا صديقي وكلُ ذالكَ قالَ عنهُ تباركَ وتعالى في محكم كتابهِ بسم الله الرحمن الرحيم { وتلكَ الأيام نداولها بين الناس ...} الآية .. وقد تجد اختلافاً أو تضارباً قد يكون بينهما كالخريف الذي بيننا لكنهُ لدى الآخرين الصيف و إلى ذالك من اختلاف كما بينتهُ الآية القرآنية أليس كذلك .؟
قال : نعم فكلُ ما قلتهُ صحيحٌ لكن مهلاً أيها الصديق الصاحب أين كنا نتحدث و إلى أيِ سبيلٍ في الحديثِ قد أو صلتنا ؟ ما غايتُكَ وراءَ كلِ هذا ؟ إني لأرى بعينيكَ لغةً فيها شيءٌ من اللوثةٍ كما يقولون فها أنا عدتُ ربيعاً فمتى تتخلصُ من خريفكَ الداخلي لتتغلبَ بهِ على محيطكَ ؟ أتعلم أنهُ بقدر ما أحملهُ اتجاهكَ من الطَمَأنينة بقدرِ ما يريبني صمتكَ هذا....!
فبينما هو يتحدثُ مسترسلاً نهضتُ من عندهِ فوقفتُ أمام ذالك الدار أتأملُ تفاصيلهُ التي توحي لي بالذكريات حينها سقطتُ جلساً كالمغشيِ عليهِ بالقرب من بابهِ الذي لم يطرقهُ غيري أسمعُ لصمتهِ الذي كان دائماً يناديني بأنين تلكَ السنوات يحدثني و كأن عبق الماضي جاء بحاضري المهشم ليضفي لمستقبلي شيئاً من أمل اللقاء الروحاني وكما في الآية (( قل الروحُ من أمرِ ربي)) ؛ فحدثتهُ قائلاً : جئتُكَ حاملاً في النفسِ حديثاً بلقاءاتهِ التي كانت مخبئةً بين حناياكَ بليالِ الأمسِ ..
يردُ صَمتُهُ : قد هجرني الأحبة و أُظلمة بعدهم تلكَ الزوايا والحب .. ما عاد يمر بنسائمهِ قد أُحبسَ بقارورةٍ بأيدي خلاني .. فليسَ الأحبةُ من خلفي جالسين ولا أوراقَ حبٍ منكَ منتظرين ..
بعدما رآني وهو كان يتحدث آتاني مسرعاً فاقتربَ مني يسمعُ أنيناً ظناً منهُ أنهُ قد غُشيِ عليَ لم يعلم بأن هذا هو حديثُ المحرومين وإذا بي أنظُرُ إليهِ فوقف ومدَ لي يدهُ وهزَ برأسهِ عارفاً بحالي فقال لي بكلمات هي بين السؤال وجوابهِ : هنا دفِنت .. هنا أنقاضُ ماضيكَ المجيد ..هنا..!
أجبتهُ : عبقٌ من ذكرياتٍ غَزاني فذرفتُ الدمع فكواني .؛ فَمشت خلفها الكلمات و انتحبت حولها الملايين من الرؤى والأُمنيات..
نظرَ إليَ نظرة حزنٍ و أمل تتخللها ابتسامة بثقةٍ : الحُزن.. يا صاحبي هو من يصنع الإبداع و الأخير يعمل المستحيل فلا تبتئس منهُ .. هو كذلك فكيف و قد مزج بهِ الحب ..؟
تأليف
قصي النوري