يقول المثل: "لص الدار لا تراقبه الأنظار". ومعروف أن العدو المخالط أخطر وأشد كيداً من العدو البعيد، لذلك قالوا: عدو واحد داخل الدار أخطر من ألف عدو خارج الدار، وهذا هو المنافق يخفى على الناس وهو بينهم، ويختلط بهم ويظهر لهم الولاء والصداقة والأخوة، في نفس الوقت الذي يعمل فيه معوله هدماً وتدميراً، ويتحين الفرص المواتية التي يضرب فيها ضرباته.

ومن رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن فصّل صفات المنافقين والنفاق؛ حتى يحذر المجتمع منهم، فقد قال تعالى في شأنهم:

(ولتعرفنهم في لحن القول).

وقد بيّن القرآن الكريم دوافع النفاق والخصال التي تجتمع في المنافقين، وفصّل في صفاتهم؛ وذلك لخطورة شأنهم في المجتمع، وقد بلغ الحذر في المسلمين مبلغه، حتى إن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه - كان يسأل حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنهما - الذي أسرّ له النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين ـ عن المنافقين، وإذا كان عمر منهم، ولقد حذر النبي منهم قائلاً:

"إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان" رواه أحمد.

إن النفاق لم يعرفه العرب والمسلمون إلا بعد الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، فلم يكن معروفاً في مكة، والمتتبع لسور القرآن يجد أن ذكر النفاق في السور المدنية فقط، وذلك أن المسلمين في مكة لم يكن لهم شوكة، بل كانت الشوكة والقوة للشرك والطغيان، فلم يكن من داع لأن يختبئ المشرك خلف ما لا يؤمن به خوفاً وجبناً.

بل على العكس، كان من المؤمنين من يخفي إيمانه خوفاً على دينهم، وأنفسهم من بطش جباري قريش، وحتى لا يظن ظان أن المسلمين كانوا يمارسون دور النفاق العكسي، وهو إظهار الكفر وإبطال الإيمان، فإننا لم نسمع أن أحداً من المسلمين الذين يكتمون إسلامهم كانوا يمارسون شعائر الكفر أو يشاركون في شيء من ذلك، بل كانوا يجتمعون بالنبي عليه الصلاة والسلام ويتلقون منه التعليمات والتعاليم.
ولكن لماذا ظهر النفاق في المدينة؟
نعرف أن الرسول عندما دخل المدينة المنورة كان عبد الله بن أبي يهيئ نفسه ليتوج ملكاً أو زعيماً على يثرب، فأسقط في يده، وقد دخل الناس في الدين الجديد، والتأموا حول القيادة النبوية الجديدة، ولم يبق بيت في المدينة إلا ودخله هذا الدين، فلم يجد ابن أُبي نفسه إلا واحداً في المجتمع الجديد، ولكن الكبر والتعالي وحب الذات منعه من الدخول في الإسلام، فلم يجد بداً من الدخول في الإسلام، فربما يكون له موقع يرجوه أو مكانة يطمع بها.

لم يكن ابن أبي يعلم أن هذا الدين إنما يتقدم فيه للمراكز الأمامية الأكثر إيماناً وتمسكاً بأهدابه ودفاعاً عنه والتفافاً حول القيادة النبوية بتجرد وإخلاص وابتغاء وجه الله، أي بالمصطلح الإسلامي الجديد "التقوى" فهو الميزان الذي يقدم ويؤخر ويخفض ويرفع.

لم يحتمل ابن سلول ذلك ولم يدخل الإيمان قلبه، ولم يتذوق طعمه، فأخذ الحسد والحقد يأكلان قلبه ويطمسان عليه، ظل ابن سلول يظهر الإسلام ويبطن الحقد والشر والكيد، ويتحين الفرص للإيقاع بالمسلمين، ولم يألُ جهداً في حبك المؤامرات في الظلام والطعن في الظهر، وعند تتبع مواقفه يتضح ذلك بلا رتوش.

الموقف الأول: ركب رسول الله مرة حماراً ليعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس فيه ابن أُبي، فغطى المنافق أنفه قائلاً: لا تغبروا علينا، ولما تلا الرسول صلى الله عليه وسلم على المجلس القرآن قال ابن أبي: يا هذا!! اجلس في بيتك ولا تَغْشَنا في مجلسنا!

موقف ثان: لما نزل يهود بني قينقاع على حكم الرسول عليه الصلاة والسلام، تقدم رأس النفاق وكان حليفاً لهم فقال: يا محمد (كذا) أحسن في موالي (..) وإني والله امرؤ أخشى الدوائر، وكرر في ذلك وشدد حتى أغضب النبي عليه الصلاة والسلام فقال له النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: هم لك. واكتفى الرسول بإجلائهم عن المدينة.

موقف ثالث: في الطريق إلى غزوة أُحد، انخذل ابن سلول بنحو ثلث الجيش، وكان يقصد توهين همم المسلمين وانهيار معنوياتهم ورفع همم العدو للقضاء على المسلمين، وقد أنزل الله في ذلك قوله: (إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) آل عمران 122.

موقف رابع: لما حاصر الرسول صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير عقاباً لهم على محاولتهم اغتيال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو في حيهم، بعث إليهم أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها.. وعندما تجهزوا للرحيل، بعث إليهم رأس النفاق ابن سلول: أن اثبتوا وتمنعوا ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصونكم فيموتون دونكم،
هذه بعض مواقف رأس النفاق وبعض ناره وفتنته، وهو يمثل الصورة الحالية لظاهرة النفاق المؤلمة، لنخلص إلى نتيجة بينة، وهي أن النفاق كذب في القول والعمل وغدر ونقض للعهود وخيانة للأمانة وجبن عن المواجهة وعصيان لله ورسوله.

وصفات كثيرة خطيرة، منها: النفسية والخلقية حتى نافت على أربع عشرة ومئة صفة وخصلة، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وما أريد تأكيده أن ظاهرة النفاق لم تنته بل زادت وانتشرت ولبست أثواباً مختلفة واحتمت برايات كثيرة للوصول إلى الأهداف المنشودة، فمن ألوان المنافقين: يهود الدونمة الذين تظاهروا بالدخول في الإسلام نفاقاً، وكان لهم دور في سقوط الخلافة الإسلامية، وإقامة العلمانية، والبهائية إحدى المنظمات المنافقة التي اشترك في تأسيسها ونشرها المجوس والصليبيون واليهود، وقد تظاهرت بأنها طائفة من المسلمين ولا يزالون.

والقاديانية منظمة أسسها ومولها الاستعمار الإنجليزي في الهند.. وهناك منظمات نفاق إقليمية وعالمية ذات شعارات مختلفة لتحقيق رغبات خاصة .

أما التأكيد الثاني فإن المكر والخداع والنفاق، وكل الوسائل التي يتبعها هؤلاء بغية إطفاء نور الله لن تزيد المسلمين إلا تمسكاً بإسلامهم، وعودة إلى منابعه الصافية والتزاماً بأحكامه حتى يأتي أمر الله:

(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) التوبة 32.

إن النفاق حالة نفسية ومرضية مدمرة، وأول ما يبدأ الدمار والانتحار بالذات ليتمدد على شكل دوائر موجية، وسيظل ابن سلول عبر التاريخ رمز النفاق الذي تولى

كبره وعليه إثمه وإثم من ضلّ بضلاله إلى يوم الدين.

منقول