اقتُحم البيت بطريقة متوحّشة، ودخل أحد الجنود سائلا عن أحمد. لم يعترف أحد منّا باسمه، فهددنا بأخذ أمّي بدلا من أحمد، اندفعت واقفا أمامه قائلا: أنا أحمد ماذا تريد؟
وضع القيود بيدي، والعصابة على عينيّ وقادني بقسوة إلى سيّارة الجيب التي أسرعت بنا متّجهة صوب السّجن، لكنّ صوتها المزعج لم يمنعني من الحديث مع من رافقني في هذه الرّحلة العصيبة.
سمعت صوت صرير بوّابة ضخمة بعدما توقّفت السّيارة، وجاء من أنزلني بقوّة ضاغطا على ذراعي.. لاعنا وشاتما.
فتحت عينيّ في غرفة التّوقيف، وإذ بنا مجموعة من الشّبان ننتظر التّحقيق. وقفنا طويلا مكبّلي الأيدي والأرجل حتّى وصل ضابط التّحقيق. وطلب إحضاري إلى غرفة منفردة.
- اسمك؟ لم أُجب.
- لماذا لا تجيبني؟ نظرت إليه نظرة احتقار وقلت: أنت تعرف اسمي ، فتلقّيت الصّفعة الأولى. ولمّا أبقيت عينيّ مسمّرتين في حدقتي عينيه، ازداد غيظا وأتبع الصّفعة بركلة قويّة كادت توقعني أرضا، لكنّي حافظت على اتّزاني، وبقيت واقفا بثبات أمامه.
- ما علاقتك بالمدعو عزيز؟.. من تُسمّونه الشّهيد!
- أنت تعرف أنّه صديقي.
- صديقي... آآآآ صديقك... يعني أنت تعرف عنه كلّ شيء.
- لا، لا أعرف سوى أنّه صديقي... فتلقّيت الرّكلة الثّانية، فيما كان يكرّر مستهزئا: صديقي...
- لا شكّ أنّك مشتاق له، وإن لم تعترف بكلّ شيء ستلحق به! أين كنتم تجتمعون وتخطّطون؟ ومن هم أصحابكم ؟.. تدرك أنّي أستطيع أن أعدّد أسماءهم، ولكن، أريد ذلك منك أنت. قال وعيناه تقدحان شررا، وقبضة يده على أهبة التّوحّش.
- لم نجتمع، ولم نخطّط. أخبرتك أنّه صديقي وزميلي في الدّراسة الجامعيّة.
- أيعلّمونكم أساليب الإرهاب هذه في الجامعة؟ أهذا ما يزرعونه في أدمغتكم ؟ حبّ القتل والشّغب؟
- نحن نحبّ الحياة بكرامة وعزّ وشموخ! ولا نحبّ الإذلال والخنوع... هذا ما غرسه فينا آباؤنا، وتنمّيه جامعاتنا....
- هكذا إذًا. فلتَعِش بكرامة. وانهالت الصّفعات واللّكمات والشّتائم، ولم أفق إلّا وأنا في مكان مظلم، ورائحة الرّطوبة والعفن تزكم أنفي.. آلام في البطن تكاد تمزّق أمعائي تخالطها اعتصارات المعدة جوعا.
جلست وقد قرفَصَت روحي لوعتي على صديقي سامر الذي غادرني شهيدا، وسياط الجلّاد قرفصت الجسد، فلم أستطع الحراك. وعيناي لم ترغبا بالبقاء مفتوحتين، فالظّلمة تلغي قيمتهما.
وجهُ أمّي يبتسم لي، وتخبرني قسماته بشدّة شوقها وحنانها لاحتضاني... أجري نحوها حاضنا إيّاها وأبثّها همومي وجوعي وتعبي... أشعر أنّي طفل بين ذراعيها، تهدهدني فأحلم بطيور الغابة مغرّدة، وفراشات أحلامي تلاحق زهرات الرّبيع الجميلة...
جسم غريب يحبو فوق كفّي مسبّبا خدوشا أفاقتني فزعا، وإذ بفأر يتقافز على جسمي، ولم أجد أمّي. لعنته وتمنّيت لو أبقاني حيث كنت.
جسمي ثقيل ومرهق ولا أستطيع الوقوف، وأخاف أن تقرض جسمي الفئران. ظللت مقرفصا... أحسّ بتورّم في الوجه وبعض أجزاء الجسد، ولكثرة ما حرّكت يديّ المنهكتين لإبعاد تلك القوارض عنّي خارت قواي، وضاعت إشارات الوقت ولم أدركه.
تثاقل جفناي مستصعبين تحمّل ظلام اللّيل، وظلمة الأفكار ووهن الأعصاب...
الوقت ظهرا يا ولدي... أرى النّور يبسط عباءاته على الكون، والشّمس ضاحكة تدعو النّاس لمحو سحنات العبوس المرتسمة على الوجوه، وكأنّها تقول لهم هأنذا أضيء عليكم، فأضيئوا أنتم نفوسكم، وامسحوا القتامة عن قلوبكم.
صرير مزعج كأنّه دويّ رعد يعيدني للظلمة، ويمحو الضّياء الذي أنار المكان وقلبي للحظات...
يقتادني السّجان للتّحقيق مرّة أخرى، وتتجدّد رحلة الرّكلات والشّتائم، ويبدع المحقّق هذه المرّة بابتكار أساليب الإذلال والتّحقير، لكنّني لم ولن أهزم أمام جبروته. حافظت على أعصابي الواهنة قويّة أمامه، وتجاهلت جوعي وألمي.. هدّدني بإعادتي إلى زنزانة الجرذان، فلم آبه لتهديداته، وكان الجفاف باديا على شفتيّ أثناء ردّي، فأمر بإحضار كوب من الماء. توقّع أن أهجم عليه لأشرب فلم أفعل.. سألني: ألست عطشا؟ قلت بلى! ولماذا لا تشرب؟ هاك تفضّل واشرب. وإذا اعترفت ستشرب أطيب الأشربة، وستحظى بما يرضيك.
لم أعره اهتماما... لحظات صمت تسود المكان ليكسرها صوت حذائه وهو يقترب منّي ليقدّم لي كوب الماء، مددت يدي فابتعد متضاحكا، ثمّ دنا وناولني إيّاه. أجبرني عطشي الشّديد على تناوله، ولكنّه كان ماء ساخنا كاد يحرق فمي!.
أعادوني إلى الزّنزانة بعد تناول وجبة من الطّعام كانت أشبع بالسّمّ الزّعاف بالنّسبة لي. وأدركت أنّها ليلتي الثّانية في المعتقل.
جلست برفقة أهلي وأصدقائي نتحدّث عن الدّراسة، نناقش مواضيع مختلفة، نذهب للتّسوّق ثمّ أعود إلى غرفة التّحقيق، والرّكلات والصّفعات، فيوقظني الوجع الشّديد من أحلام يقظتي، وأعود إلى وحدتي وظلمة المكان، والشّوق يحملني على أجنحة الألم إلى هناك...
لا أدري كم مكثت... أحسست أنّ الزّمن توقّف والحياة تجمدّت إلّا من حركة لساني طالبا من ربّي فكّ كربتي، ومن نشاط خيالي الذي حملني إلى حيث أحبّ، إلى مَن نيران الشّوق إليهم صلت مشاعري، ولم تبقني هناك طويلا.
أمشي وقدماي مكبّلتان، ويدي مربوطة بيد الشّرطيّ بعد أن نقلت إلى السّجن البعيد. الجسم يترنّح تعبا، والقيود تعيق الحركة، وعيناي تعانيان وأحاول فتحهما بصعوبة، وإذ بأذني يخترقها صوت سماعات تصدح في ساحة السّجن :
أراك عصيّ الدّمع شيمتك الصّبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر
نعم أنا مشتاق...
توقّفت ولم أنصع لأوامر الشّرطيّ بالمشي؛ لأتأكّد ممّا أسمع، ابتلعني شعور غريب، ووجدتني ألتهم دموعي التي ذرفت غزيرة حارّة، بعد أن حُبِست وإيّاي وظلّت أبيّة عصيّة.