الحضارة الإسلامية والحياة العقلية الإسلامية
بقلم : مسعد حجازى ـ تورونتو ـ كندا
كاتب وصحفى مصري ـ كندى
لكل شعب من الشعوب روحه العامه وخصائصه التى تميزه عن باقى الشعوب والأمم ،
وهذه الروح تكشف عن نفسها فى اللغة والدين والتراث الشعبى والأساطير والفن
والأدب وقواعد الأخلاق السائدة والعرف الإجتماعى والقانون . وهذه الروح العامة
لأى شعب تدخل فى نطاق بحث ما يسمى بـ " علم نفس الشعوب" ـ
Folk Psychology والذى يعنى بدراسة الخصائص النفسية للشعوب المختلفة ، وهى
الخصائص التى تجعل المواطن النرويجى مثلا ينظر إلى الأمور نظرة تختلف عن نظرة
الإيطالى أو اليابانى أو الصينى أو الكندى أو الأمريكى أو الإنجليزى أو الفرنسى ....الخ ،
وتجعل المواطن المصرى والعربى يختلف فى نظرته للأمور عن باقى خلق الله فى
سائر أنحاء على الرغم من أن كل ما يصبو إليه ويطمح لا يختلف كثيرا عن أبسط الحقوق
والطموحات التى يصبو إليها ويحصل عليها أى مواطن فى كل المجتمعات المتحضرة :
حياة آدمية كريمة ـ مسكن مناسب وتعليم جيد ورعاية طبية لاتقل فى مستواها عن
مستوى أى مستشفى أو عيادة حيوانات فى كندا أو أمريكا أو إنجلترا أو فرنسا ، وحقه
فى فرصة عمل تتناسب مع قدراته الشخصية وكفاءته العلمية وليس لأنه إبن فلان
الوزير أو قريب علان الأمير ، أو شقيق "كوافير" الست الهانم حرم سعادة السفير ،
ولا يحرم من وظيفة مرموقة لأنه والعياذ بالله "غير لائق إجتماعيا" .
حقه فى أن يعبر عن نفسه وهو طفل أولا فى البيت وفى المدرسة ثم فى الجامعة
وفى مكان العمل ، ثم حقه فى أن ينتخب كل من يتحدث باسمه ويهيمن على مصالحه
من أول عمدة القرية لنائب الدائرة فى البرلمان والوزير وحتى رئيس الجمهورية .
نعم تختلف نظرة المواطن فى مجتمعاتنا العربية للأمور عن نظرة أى مواطن آخر فى
الكرة الأرضية لسبب رئيسى فى غاية الأهمية والخصوصية ولا يمكن تجاهله ألا
وهو أنه يعيش فى هذه المنطقة من العالم التى نسميها نحن مجازا العالم العربى
وكأنه كتلة واحدة وموحده ويطلق عليها العالم إسم " الشرق الأوسط" . منطقة
شاءت الأقدار الإلهية لحكمة ما أن تكون هى دون غيرها مهد الحضارات البشرية ومهبط
الوحى والأديان السماوية ومطمع الغزاة والمستعمرين عبر آلاف السنين ، وأن يكون
بها أكبر مخزون وإرث فى العالم من التراث الشعبى والأساطير والخرافات والدراويش
والتاريخ المزيف فى معظمه ، والأعراف وترسانات القوانين ... كلها انتجت لنا فى النهاية
ثقافة القهر والتخلف والخنوع والتكاسل والتواكل وبعد أن ساد التفكير الخرافى
وضربت جذوره فى الأرض منذ قرون ، وبعد كل هذا هل يحق لنا أن نلوم شبابنا التائه
الضائع إذا ما جرى يلهث وراء فيديو كليب لنانسى عجرم أو روبى!!.
وماذا عساه أن يفعل وهو يعانى من آثار إنهيار العملية التعليمية ، ومن جشع دراكولات
ومافيا الدروس الخصوصية ، وشبح البطالة المتفشية ، وإعلام معظمه موجه يعتمد
على التضليل والتخدير والتقليد الأعمى ؟!!
ماذا عساه أن يفعل وهو لم يجد القدوة والمثل الأعلى ووجد العامة والخاصة يتحدثون
عن ضرورة نهضة الأمة!! ... شعار من ضمن آلاف الشعارات التى يعلم رافعوها أنها
لن تتحقق بينما هم فى حقيقة الأمر يهربون من المواجهة الحقيقية لجبل المشكلات
التى تراكمت عبر السنين والعقود والقرون بحلول علمية عملية وواقعية فى إطار منظومة
واستراتيجية كاملة ومتكاملة.
ماذا عساه أن يفعل وقد ولد وعاش وسط قوانين الطوارئ التى تحولت فى كثير من بلداننا
العربية إلى قاعدة بدلا من أن تكون إستثناءا ؟!! كيف يستقيم العمل بقوانين الطوارئ مع
التشدق بدعاوى الحرية واليمقراطية التى يسمعها شبابنا صباحا ومساءا ؟!! إنهما
ضدان وقطبان متنافران لا يجتمعان . وماذا عساه أن يفعل بعد أن خذله الكبار أصحاب القرار
وأهل الحل والعقد من كل التيارات السياسية والدينية والمذهبية السياسية والمذهبية
الدينية والمثقفين الذين غرقوا جميعا فى بحيرة المصطلحات والنظم السياسية من دينية
وعلمانية وديمقراطية واشتراكية ، واستغرقوا فى مناقشات نظرية سفسطائية وحوارات جدلية
لا طائل من وراءها وتفتقد إلى أسس وبديهيات الحوار البناء المثمر والجدل المنهجى
بدلا من أن يركز رجال الأمة وحكماؤها ومفكروها وعلماؤها جهودهم فى إجراء عمليات
فض إشتباك لكثير من الإشكاليات وهذه ليست موضوع المقال الرئيسى هنا فسوف
أتعرض لها بالتفصيل فى عدة مقالات أخرى مستقلة .
إننى أشفق على الجيل الحالى من الشباب ـ مستقبل الأمة ـ وأرثى لحاله وهو المعنى
أساسا بموضوع مقالى . هذا الشباب الذى يمثل نحو نصف عدد سكان العالم العربى
(تحت سن العشرين) ويجد نفسه ضحية الحوار والجدل القديم الذى لا ينتهى بين تيار
" النصوصيون/السلفيون " والتيار العلمانى فى وقت يتعرض فيه ابناؤنا لكل مؤثرات
الحضارة والمدنية الغربية والثورة التكنولوجية الهائلة فى عالم الإتصالات التى حولت
العالم بالفعل إلى قرية كونية .
إننى أخشى أن يخرج شبابنا بإستنتاج خاطئ مؤداه أن الدين الإسلامى يقف ضد التقدم
والحضارة والعقل والتفكير وهذا غير صحيح ، فالفكر البشرى متصل الحلقات ، وياليتنا
نتعلم فى بلداننا العربية ونحن نفكر ونناقش أية قضية من القضايا أن نضعها فى المنظور الصحيح ـ
How To Put Things In Proper Perspective? ـ أو بمعنى آخر القدرة على
رؤية الأشياء وفقا لعلاقاتها الصحيحة أو أهميتها النسبية دون مبالغة أو خلط خاطئ
أو متعمد للأمور ، وهذا ما سأحاول أن أفعله هنا باستخلاص الجانب المشرق والمضئ
من صورة التاريخ العربى والإسلامى ـ موضوع الحضارة الإسلامية والحياة العقلية
الإسلامية ـ والتى يعترف بها وبفضلها كل باحث علمى وموضوعى ومنصف للحقيقة فى
المجتمعات الغربية المتقدمة ـ واضعا فى الإعتبار أن الصورة فى مجملها لم تكن كلها
مشرقة وأن تناول وقائع التاريخ ـ أى تاريخ ـ مسألة محفوفة بكثير من الأخطار على
المعرفة العلمية الدقيقة ، فالمعرفة بأية واقعة تاريخية يندر أن تكون معرفة دقيقة
بجميع مقومات الموقف الذى أحاط بها ، وبالتالى فإنها كثيرا ما تكون من المرونة بحيث
تتيح أن يقيم عليها الباحثون المختلفون قضايا متعارضة ، هذا إلى أن كثيرا من المؤلفين
والكتاب الذين أكثروا من الإستشهاد بوقائع التاريخ عودونا على أن يتناولوا هذه
الوقائع بطريقة أنتخابية ـ ينتخبون ما يوافق فروضهم وتوقعاتهم وأهوائهم ويتركون
ما لا يوافقها وهذا لا يساعد على إقامة بناء علمى سليم .
والثابت تاريخيا أن العرب المسلمين بعد حوالى مائة سنة من ظهور الإسلام قد أصبحوا
سادة إمبراطورية ودولة كبيرة مترامية الأطراف تمتد من ساحل المحيط الأطلنطى غربا
إلى مشارف الصين شرقا. إمبراطورية كانت فى وقتها أكبر من الأمبراطورية الرومانية
فى أوج ازدهارها ومجدها وأكبر من كل الإمبراطوريات الإغريقية والفارسية والروسية
والأنجلوساكسونية التى عرفها التاريخ وحتى يومنا هذا ، ومن لديه شك فى تلك الحقيقة
عليه أن يطالع ما كتبه المؤرخ الأمريكى العربى الأصل فيليب حيتى فى كتابه الموسوعة
" تاريخ العرب" ، وهو الكتاب الذى تفرض وزارة الخارجية الأمريكية على كل سفراءها
ومبعوثيها قراءته ـ طوال الستين عاما الماضية ـ قبل إلحاقهم بالعمل فى السفارات
الأمريكية فى كافة بلدان الشرق الأوسط .
وهذه الإمبراطورية الكبيرة التى شيدها العرب والتى امتصت واستوعبت شعوبا وأقطارا
عديدة ومختلفة فى لغاتها ودياناتها وأعراقها وحضاراتها انتجت أيضا ثقافة وحضارة
كبيرة نقلت وطورت حضارات أخرى قبلها ولم تلغيها لأن الفكر الإنسانى كما قلنا مرارا
وتكرارا متصل الحلقات . أليس فى هذا الدليل والبرهان على أن الإسلام فى حقيقته
وجوهره هو دعوة إنسانية كونية تتخطى حدود الزمان والمكان ، وأن القرآن الكريم
" أنزله الذى يعلم السر فى السماوات والأرض" ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
تمتاز الحضارة الإسلامية عن غيرها من الحضارات بمميزات كثيرة أهمها ما يلى:
ـ جاء الإسلام فى وقت انهارت فيه حضارة بلاد العرب القديمة سواء منها ما نشأ فى
اليمن وما قام بالعراق إلى جانب دولة الفرس ، وبالشام إلى جانب دولة الروم فلم يعد
فيها دولة تضمن للناس إقامة شعائر دينهم فى أمن وإطمئنان ، وتنصف ضعيفهم من
قويهم ، وتقر الأمن بينهم ليتفرغوا لما يتصل بمعاشهم من زراعة وصناعة وتجارة.
ولما كان من العبث فى مثل هذه الفوضى توقع إتفاق الناس على وضع دستور يبين
الحقوق والواجبات، لزم أن يجئ الدستور من عند الله تعالى ، فنزل القرآن الكريم
شاملا لكل ما يكفل للناس صلاح دينهم ودنياهم بما فيه من قواعد عامة فسرتها
السنة النبوية ، واستمد منها كل جماعة من الناس ما يناسب ظروفهم الخاصة ومن
ذلك أنه شرع الشورى فى إدارة شئون الدولة وترك الناس أحرارا فى كيفية تطبيقها
على أحوالهم.
_ ولما كان الإسلام دعوة عامة لا يختص بها شعب دون آخر لزم أن يكن مؤسسا
على المساواة بين الأجناس ، وأن يقوم التفاوت بين الناس على أساس ما لدى كل
واحد منهم من الفضيلة فيكون أكرمهم عند الله أتقاهم ، ومن مظاهر هذه
المساواة أن أعطيات الجنود التى نسميها اليوم مرتبات ومعاشات كان يستوى فيها
العربى وغير العربى من حيث المبدأ ، ثم يتفاوتون بحسب أسبقيتهم إلى الإسلام
ومقدار الخدمات التى يؤدونها للمجتمع بغض النظر عن الجنس الذى ينتسب إليه
الجندى ، وفى هذه الجزئية أو الناحية تسمو الحضارة الإسلامية عن الحضارة
اليونانية إذ كان اليونان القدماء يرون أنهم وحدهم يصلحون لأن يكونوا حكاما .
ونشأ عن هذه المساواة أن ساهم فى الحضارة الإسلامية العرب والفرس والروم
والمصريون والهنود والأتراك والبربر وغيرهم ممن إجتمعوا تحت لواء الإسلام
فجاءت حضارة واسعة الأساس متنوعة النواحى ومتناولة لكل ما سمت إليه
تلك الشعوب العديدة وجادت به قرائحها فى الزراعة والصناعة والتجارة والعلم
والآداب والفن.
ـ جاء الإسلام والتعصب الدينى يفرق بين بنى الإنسان من نصارى ويهود ومجوس
ووثنيين ، ثم يفرق التعصب المذهبى بين أهل الدين الواحد ، وكان الناس قبل
الإسلام يضطهدون من يخالفهم فى المذهب الدينى ولحسم هذا النزاع نادى
القرآن بالتسامح الدينى التام حيث قال الله تعالى : " لا إكراه فى الدين ، قد
تبين الرشد من الغى" .
نعم جاء الإسلام بالتسامح الدينى ليقيم عليه التعاون الإنسانى فأباح للناس ، إذا
شاءوا الإحتفاظ بنصرانيتهم ويهوديتهم ومجوسيتهم ، وتعهد بحمايتهم وحماية
كنائسهم ومعابدهم ، وإمعانا فى التسامح لم يكلفهم أن يحاربوا فى صفه خشية
أن تؤنبهم ضمائرهم ، بل اكتفى من شبانهم الموسرين بمساهمة مالية ضئيلة
بمثابة إكتتاب فى نفقات الجيوش التى تحمى المجتمع الإسلامى وهم فيه أعضاء ،
لكل واحد منهم ما للمسلم ، وعليه ما على المسلم ، وآية ذلك أنه جعل دية الواحد
منهم دية المسلم بلا تفريق ، وأنه أعفى من هذا الإكتتاب الذى عرف باسم
"الجزية" جميع النساء والأطفال والشيوخ والمرضى والفقراء والرهبان فى
أديارهم.
وبهذا التسامح تمتاز الحضارة الإسلامية على حضارة الرومان وإضطهادهم
لمن دان بالمسيحية أشهر من أن يذكر ، وبخاصة فى القرون الثلاثة الأولى
من ميلاد المسيح عليه السلام ، وتمتاز كذلك على حضارة الأسبان فى القرن
الخامس عشر الميلادى حين أخرجوا العرب من بلادهم وإضطهدوا من بقى فيها
من المسلمين واليهود أشد الإضطهاد فى حين أن هؤلاء الأسبان عاشوا قبل
ذلك مئات السنين تحت الحكم الإسلامى آمنين على دينهم ، آخذين بنصيبهم
فى مرافق الدولة الإسلامية بالأندلس ، ومقربين إلى الأمراء والخلفاء. ، وبفضل
هذا التسامح أقبل العلماء والفنانون ـ نعم الفنانون ـ من جميع الملل إلى دمشق
وبغداد والقاهرة وقرطبة ونالوا من رعاية الخلفاء والعظماء ما شجعهم على
الإتتاج والإبداع كل فيما هيأت له كفايته ومقدرته وموهبته.
إذن العلوم والفنون وصنوف الإبداع لا يمكن لها أن ترقى وتسمو إلا فى مناخ
من الحرية والتسامح .
وعن فعل الصليبيين بمسلمي الأندلس يقول المفكر والعالم الفرنسى الكبير
جوستاف لوبون: " لما أجلي العرب – يعني المسلمين – سنة 1610م اتخذت
جميع الذرائع للفتك بهم فقتل أكثرهم وكان من قتل إلى ميعاد الجلاء ثلاثة ملايين
من الناس في حين أن العرب لما فتحوا أسبانيا تركوا السكان يتمتعون بحريتهم
الدينية محتفظين بمعاهدهم ورئاستهم .... وقد بلغ من تسامح العرب طوال حكمهم
في أسبانيا مبلغاً قلما يصادف الناس مثله هذه الأيام " .
( يتبع )