أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: الرصيف الأخير

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 920
    المواضيع : 188
    الردود : 920
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي الرصيف الأخير

    . الرصيف الأخير

    على رصيف قطار الصعيد بتلك المدينة في وسط الدلتا، شدني مقعد شاغر ، فحشرت نفسي إلى جوار رجل حاسر الرأس ،بجلبابه البلدي البسيط ، يرتكن إلى كيس ضخم ، يحوي، ربما، أقمشة أو ملابس، أو شيء من هذا القبيل.

    ألقيت السلام فرد بابتسامة اتسع لها فمه إلى بين الرصيفين.

    (أعلن في مكبر الصوت أن قطار الجنوب سيكون على الرصيف الأخير رقم ١٠)
    هممت بالقيام لأبحث عن الرصيف الأخير، فأمسك بكفي، وبادرني بابتسامة جامدة،على وجهه الشاحب البياض، قائلا :
    إلى أين؟ لا تذهب ...فهنا الرصيف الأخير.

    (لا أدري لماذا انقبض قلبي فجأة.) غير أني شاغلت نفسي بإشعال سيجارة عابرة.
    - أنا: سيجارة؟
    -قهقه بصوت مرتفع حتى لفت نظر المحيطين في المكان:
    لا مابشربوش. وعاود القهقهة.
    - انا: هامسا لنفسي: (يالها من ليلة منيت النفس فيها ، (بمعرفة) جديدة و ( دهشة) جديدة.
    تجاذبت معه الحديث ، وكان بشوشا ودودا يحفظ تاريخ مصر السياسي وتاريخ ( الفقر والعوز)؛ منذ عهد محمد علي باشا حتى الآن ، من وجهة نظره طبعا،حتى عرفت أنه تاجر أقمشة .
    (كم هو مبتهج بمهنته, راض بها، وكيف لا وقد ارتبطت بها ساقية رزقه ،وهي تدر عليه دخلا مرضيا.)
    وكان يتحدث بحماس شديد ، وابتسامته تتسع إلى حد القهقهة ،تخرج منه بصورة ميكانيكية و بسعادة بالغة. داعيا الله أن يديم عليه الستر و(نعمة الموت) الذي يحصد أرواح الناس.( هكذا بنص كلماته). حيث أنه تاجر أكفان شهير في قريته.
    (يا ألطاف الله! الرجل يبتهج بموت الآخرين! بعد أن يبيع عدة أكفان لأناس نكبوا بمصيبة الموت، يرجعون هم إلى أهليهم بما اشتروا ،وفي حلوقهم غصة، وفي قلوبهم أحزانهم وفي العيون دموعهم!
    ويعود هو مبتسما فرحان جذلا إلى بيته وزوجته وعياله، ليطعمهم ويسقيهم ، ويكسوهم. وربما وهو في طريقه لبيته ، يعرج لشراء هدية يسعد بها قلب امرأته، أو لعبة يلهو بها عياله.
    سبحان فاتح الأبواب ، ومقسم الأرزاق.

    وكم تقع بنا أحداث جسام، منها السعيد ، ومنها الكئيب، وعلى الجانبين هناك الطرف الثالث المستفيد، لله في خلقه شؤون)

    شدتني أفكاري إلى عمق النفس، وانهالت كمطر غزير.نعم رأسي تضطرب بأحوال الناس ، ووجهة نظري فيما يقع من حولي.وتلك هي عادة عقلي الباطن، يأخذني إلى سراديب تلافيفه، بجرد أن اندمج في ضوضاء الواقع ، مشتبكا مع عنفوانه المشتعل، محاولا فهمه أو على الأقل التعايش معه.
    (وفي الحالين ، فرحا وحزنا ،هناك المنغمسون من السعداء وهناك المنغمسون من المكتئبين ، كل في عنفوان حالته.
    هناك فئة ثالثة ، وهي الفئة المستفيدة. ويطلق عليها في مجال الدراسات الاجتماعية الفئة (الانتهازية).
    وهي صفة ليست سلبية في عمومها، رغم ما يوحي به اللفظ.

    ففي الموالد والأعياد ينتشر باعة المتعة البريئة، من طعام وشراب وكساء وألعاب ترفيهية لجذب رواد الحدث والمشاركين ، إلى الشراء.
    كما في الحوادث والنكبات، هناك المستفيدون أيضا. وتجار كل شيىء يحتاجه الناس في أزماتهم.
    وعلي الجانب المظلم من قضيتنا ، ستجد على الطرفين من هو منحرف وابن( كلب) مستغل.

    كباعة المخدرات والمرابين وسماسرة المتعة المحرمة والنشالين في الزحام، والنصابين ومحترفي خداع السذج والبسطاء وتجار البضائع الممنوعة والمهربة ومنتهية الصلاحية.
    أولئك الانتهازيين يلعبون على وهم إشباع الرغبات والميول والنزوات المنحرفة عند البشر.)

    كان صوته يتناهى إلي بين الحين والآخر، حتى ابتعد عن مجال سمعي تماما ، في غمرة اشتباكي مع أفكاري في حديث النفس الذي انطفأ تحت تأثير ضوضاء الأرصفة بحركة القطارات ودوي الماكينات .
    فردني صوته مرة أخرى إلى الواقع.بزحامه وضجيجه.ورويدا رويدا ، خمد حديث الرجل ، وانطفأ حماسه.
    (ربما يأس من استماعي له ،و الإنصات إليه، ومع انطفاء رغبتي في التجاوب مع ما يقول.)
    وكأني به قد خمد جسده أيضا من كثرة الكلام، فسكت فجأة . وأسند رأسه إلى زكيبة الأكفان، ومع كل ذلك الضجيج الذي يعم المكان ،أغمض عينيه بهدوء،ووجهه ينم عن ابتسامة عريضة توحي بالرضا والسلام.

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,137
    المواضيع : 318
    الردود : 21137
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    سبحان مقسم الرزاق والذي جعل رزق ناس من مصائب الناس.
    حديث نفس معبر ومعان سامية على جسر لغة متمكنة
    نص بديع بفكرته ومعالجته وحوار داخلي تمكنت من العزف عليه ببراعة
    فرسمت لوحة إنسانية عميقة لونت بسموق طرحك وجمال حرفك فتألق..
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    وألف مبروك لفوز الفريق المغربي وتأهله إلى النصف النهائي في كأس العالم
    والذي أسعد بفوزه العالم العربي كله.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 920
    المواضيع : 188
    الردود : 920
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    الأستاذة نادية الجابي.
    وجودكم يثري الحرف وصاحبة.
    أشكرك بلا حدود، لتواجدك العذب وتفاعلك الراقي.
    تحياتي سيدة القلم الأنيق.

  4. #4
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Nov 2019
    المشاركات : 3,456
    المواضيع : 237
    الردود : 3456
    المعدل اليومي : 2.15

    افتراضي

    بائع الأكفان .. واحدة من المهن التي تمثل إحدى همزات الوصل بين عالم الدنيا والعالم الآخر
    يتربح صاحبها من الموت وفي ألمهم وحزنهم سعادته ورزقه ورزق أولاده.
    قصة حكيمة بفلسفة راقية لا يفكر فيها إلا من يمتلك عمق التفكير وسعة الخيال وروعة التصوير.
    جميلة معبرة ــ بوركت واليراع.

  5. #5
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 920
    المواضيع : 188
    الردود : 920
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    ا. أسيل
    سعدت بتواجدك الثر. وتعليقكم الفلسفي الراقي.
    تحياتي سيدتي.