السلطان العثمانى سليمان القانونى ( 1 )
هو أعظم وأقوى السلاطين العثمانيين وأشهرهم على الإطلاق، وان نازعه في الشهرة جده محمد الفاتح ووالده سليم الأول.. لقبه الأوربيون بالسلطان الجليل أو السلطان الوقور ، ولقبه المسلمون بما اشتهر به من العدل وحسن إدارة البلاد وتنظيمها والعدل والحزم والتطبيق الصارم للقانون ، فقد لقبوه ب " سليمان القانوني " .. و" القانوني " أيضا هو اللقب المشهور به لدى المؤرخين الأتراك.. أما نسبه فهو : سليمان بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول بن بايزيد الأول ( الصاعقة ) بن أورخان بن عثمان الأول ..
ولد القانوني في مدينة ( طرابزون ) سنة 900 هجرية عندما كان والده ( سليم الأول ) واليا عليها ، تربى سليمان تربية سلطانية إسلامية على حب العلم واحترام العلماء، ونشأ محبا لدينه، معظما للشريعة، مولعا بالثقافة والعلوم والأدب، مهيئا للقيادة، لديه رغبة قوية لخدمة دينه ونجدة المسلمين، .. وكان رحمه الله متعدد المواهب، كثير الاهتمامات، موفور الهمة، كبير العقل، حاد الذكاء، بادي الوقار، حازما صارما، مجدا مجتهدا، شديد البأس، متأنيا صبورا، مجاهدا مثابرا، حريصا على دولته ورعيته..
تولى " القانوني " عرش السلطنة بعد وفاة أبيه ( السلطان سليم الأول ) سنة 921 هجرية، وظل في الحكم ثمان وأربعين سنة حيث كانت وفاته في 20صفر 974 هجرية – 5 سبتمبر 1566ميلادية عن عمر يناهز الأربع وسبعين سنة.. ويعتبر السلطان سليمان القانوني أطول السلاطين العثمانيين حكما وأوسعهم شهرة خاصة لدى المؤرخين الأوربيين نظرا لانجازاته الباهرة، وشخصيته المؤثرة، وفترة حكمه الاستثنائية، والتي بلغت فيها الدولة العثمانية ذروة المجد والعظمة، فقد كانت – بالتعبير العصري – هي القوة العظمى المهيمنة والمتحكمة عسكريا وسياسيا، والمؤثرة ثقافيا وحضاريا وعلميا وإنسانياً، والمتفوقة تقنيا، والأكثر توحدا وتنظيما، والأقوى جيشا، والأوسع نفوذا، والأسرع وصولا لما حددته من أهداف سلما أو حربا حتى لو بدت هذه الأهداف لأعين المراقبين مستحيلة.. فقد امتدت حدود الدولة واتسع نفوذها ليشمل القارات الثلاث ( آسيا وأفريقيا وأوربا ).. وسيطر العثمانيون سيطرة كاملة تامة على الشرق الإسلامي، وشبه كاملة على آسيا الوسطى، وتوغلوا في أوربا حتى وصلوا إلى أسوار فيينا، وكانوا بلا منازع هم سادة البحر المتوسط حيث انهزم أمام أسطولهم البحري الكبير أسطول البابا وأسطول البندقية واسبانيا ومالطة والبرتغال عام 945 هجرية.. وامتدت حدود الدولة لمساحة تزيد على 400 ألف ميل مربع حيث الطونة ( الدانوب ) في الشمال والمحيط الهندي في الجنوب والقوقاز وإيران والعراق في الشرق وجبال أطلس في الغرب..
واستطاع السلطان " القانوني " خلال فترة حكمه الطويلة أن يقضى على حركات التمرد ومحاولات الاستقلال عن سلطة الدولة، وقام بتأديب العملاء والخونة وتصدى بحزم وعزم وقوة للفتن الداخلية.. وأخضع التكتلات القوية والتحالفات الدولية لإرادته.. وأكمل ما بدأه والده وصولا إلى حلم السيادة على العالم الإسلامي، فاستطاع إخضاع الدولة الصفوية في إيران وإيقاف أطماعها، كذلك نجح في احتواء دولة المماليك وضم إلى إمبراطوريته ليبيا وتونس والجزائر.. كذلك استطاع السلطان " القانوني " بعد انتصارات متتابعة نوعية مبهرة بسط سلطانه على أوربا الوسطى، وقد تقاضى هذا السلطان الهمام الضرائب من روسيا وألمانيا والبندقية وبولونيا، وشق الصف الأوربي وتحالف مع فرنسا وأدخلها تحت حمايته...
وفي عصر السلطان سليمان القانوني صار العثمانيون هم سادة البر والبحر بلا منازع، فقد استطاع في معاركه البرية هزيمة الجيش المجرى، وحاصر فيينا عاصمة النمسا سنة 935 هجرية، وقام بحملة على ألمانيا في إطار صراعه مع أسرة ( هايسبرج ) للسيادة على أوربا الوسطى، كذلك استعاد مدينة بودين المجرية سنة948 هجرية -1451ميلادية، أيضا تصدى لحملة صليبية أشرف عليها البابا ( بول الثالث ) وشاركت فيها النمسا والمجر.. أما في البحر فقد امتلكت الدولة العثمانية في تلك الفترة قوة بحرية هائلة أهلتها لتأمين سيطرتها على البحرين الأبيض والأسود بالإضافة إلى البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي، وفي هذا المجال لمعت أسماء بحارة عظام خاضوا المعارك وأحرزوا الانتصارات البحرية الرائعة التي صنعت هيبة الأسطول العثماني وأرست دعائم القوة العثمانية في البحر منهم برباروس خير الدين وبيرى رئيس وكمال رئيس ومصلح الدين رئيس وطورغود رئيس وغيرهم..، ومن انجازات سليمان القانوني ووقائعه المشهودة في البحر فتح جزيرة رودس سنة 928 هجرية، كذلك الانتصار الفذ الذي أبدعه القائد العثماني خير الدين برباروس على أشهر القادة البحريين في ذلك الوقت ( أندريا دوربا ) في موقعة بروزة الشهيرة في إطار الحملة الصليبية التي أطلقها البابا بول الثالث سنة945هجرية، أيضا استطاع خير الدين برباروس إنقاذ أرواح آلاف المسلمين في أسبانيا وذلك بضرب السواحل الأسبانية سنة 935هجرية وتنظيم رحلات بحرية إلى تلك السواحل استطاع من خلالها نقل أكثر من سبعين ألف مسلم وإنقاذهم من قبضة الحكومة الاسبانية ، كذلك الانتصار على الأسطول الألماني سنة 948 هجرية ومنعه من مهاجمة الجزائر، أيضا تحرير طرابلس الغرب من فرسان مالطة النصارى على يد القائد البحري العثماني طورغود رئيس ..
لم تقتصر انجازات السلطان " سليمان القانوني " على الجانب العسكري والسياسي فقط، ولكن رافقها تقدم وازدهار في كافة المجالات وفي كل مناحي الحياة .. يقول المؤرخ البريطاني " برنارد لويس " في كتابه " اسطنبول " : "... ورافق توسع الإمبراطورية العثمانية وقوتها العسكرية في عهد سليمان القانوني اقتصاد متين وإدارة دقيقة وثقافة غنية رفيعة"، فقد أظهر القانوني همة وإبداعا ً وتفوقا في تنظيم شئون هذه الإمبراطورية مترامية الأطراف، واهتم بالعلماء ونشر الثقافة والعلوم والفنون الراقية، واهتم بالعمران، وفي عهده ظهر أشهر البنائين وأكبر شخصية معمارية في التاريخ الإسلامي وهو المعماري " سنان باشا " الذي بني أروع المساجد والمعاهد و المدارس والكتاتيب والجسور والقصور والمعاقل والحصون، ويشهد مسجد السليمانية الذي بناه السلطان القانوني الذي يعتبر أشهر الأعمال المعمارية في التاريخ الإسلامي وغيره من روائع العمارة في مكة ودمشق وبغداد ورودس وبودابست وبلجراد على ذوقه الفني الرفيع وعلى مدى التقدم الذي أحرزه العثمانيون في هذا المجال.. كذلك شهد عصره ازدهارا في التعليم، وكان قد وضع نظاما تعليميا متطورا طبق في كافة أنحاء الدولة العثمانية، وتقدمت النظم الداخلية للدولة وانتظم سيرها نظرا للقوانين الصارمة العادلة التي سنها السلطان سليمان القانوني والتي تنظم شئون الحياة بدقة وعدالة وحزم، والتي انتسب إليها وانتسبت إليه تحت اسم( سليمان قانون نامة )..
لذلك كله كان عصر سليمان القانوني أقوى وأزهى عصور الدولة العثمانية، وبحسب تقسيم الشيخ محمود شاكر رحمه الله حيث قسم في كتابه ( التاريخ الإسلامي ) حكم العثمانيين إلى أربعة مراحل.. مرحلة قوة، مرحلة ضعف، مرحلة انحطاط، ثم مرحلة حكم الاتحاديين، فقد حصر مرحلة القوة في عصر السلطان سليمان القانوني وعصر والده سليم الأول وهى فترة لم تزد كثيرا عن نصف قرن..
ويقول الدكتور محمد حرب في كتابه ( العثمانيون في التاريخ والحضارة ) عن فترة حكم سليمان القانوني : " .. كان عهد القانوني قمة العهود العثمانية سواء في الحركة الجهادية أو في الناحية المعمارية والعلمية والأدبية والعسكرية، كان هذا السلطان يؤثر في السياسة الأوربية تأثيرا عظيما ، وبمعنى أوضح .. كان هو القوة العظمى دوليا في زمنه، نعمت الدولة الإسلامية العثمانية في عهده بالرخاء والطمأنينة " ... ويقول برنارد لويس عن تلك الفترة : ".. ويعتبر بحق حكم سليمان (1520ميلادية – 1566ميلادية ) المعروف عند الأتراك ب( القانوني ) بالذروة في قوة العثمانيين ومجدهم " ...
ولأهمية هذه الفترة التاريخية ، ولتأثيرها الكبير في صراعات وأحداث ومواقف وأحلاف وتكتلات اليوم.. ولشوقنا وحنيننا لصورة العالم الإسلامي المشرفة والمشرقة في تلك الفترة، ولأننا لا تكفينا فقط الأشواق ومشاعر الحنين إلى ماضينا الجميل، ولأن البكاء فقط على ذلك الماضي والتحسر عليه لن يغير ولن يضيف ولن يبدل.. ولأن هناك شبها في الأحداث وان كانت الأدوار معكوسة، ولأننا في أمس الحاجة اليوم إلى صناعة أبطال وقادة من طراز سليمان القانوني.. ولأنني ( وهذا سبب شخصي ) من أشد المعجبين بتاريخ الدولة العثمانية وبسيرة خلفائها فسأحاول بحول الله على حلقات سرد بعض الأحداث التي أجملتها هنا بشيء من التفصيل ، واستخلاص بعض العبر ودراسة بعض المواقف والوقوف عند بعض المشاهد.. للتعرف أكثر على شخصية هذا السلطان الوقور ..
رد مع اقتباس
