اللعنة .. للأديب مصطفى حمزة
بَرئتُ منك ، لا أعرفك ... اخرج من بيتي ..واغرب عن وجهي .. دعني وزادي وأهلي .
لكنني أخوك ، ابنُ أمك وأبيك ، وهؤلاء أبنائي ، قد اقتلع الإعصارُ بيتنا ، وطرّدنا الأغرابُ ، ولم يعد لدينا سقفٌ ولا لِحافٌ !
أصَمّ أذنيه وأخرسَ الرّحِمَ ، وأرْتجَ البابَ دُونـَهمْ ، وأسْلـَمَهُمْ لجنودِ الله من فوقهم وأعدائِه من تحتهم.
ثم دارت الأيامُ دورتها ، فهلّ الربيعُ ، وفاحَ عبيرُ الزهور ، وحَضَنَ الأمانُ الخائفينَ والتحفوا بالسَكن، وأمسى ما كانَ حكايةً من سالف العصر والزمان
لكنّ لعنةً سوداءَ يُشير إليها الجيلُ بعدَ الجيل ؛ لم تزل في ذلك البيت الذي أغلقَ بابَهُ دونَ أهلِه في يوم رَوْعَتِهمْ !
رؤية نقدية بقلم / هشام النجار
مقدمة لابد منها ونحن بصدد تناول نص للأديب المميز مصطفى حمزة ، الذى تحمل مجمل أعماله سمات تستوجب معالجتها على ضوء منطلقاتها وجذورها وتحت ظلال معارفها ومرجعياتها القيمية .
من خلال قراءاتى لمجمل ما كتب هنا فى الواحة رصدت ولمست تنوع موضوعات ومضامين نصوصه ، ليس فقط التنوع الكمى والمنظور لقضايا مختلفة ، انما هو تنوع استيعابى لدقائق الحياة ودقائق العلاقات الانسانية ، مع غوص تحليلى مميز لشواغل النفس وأمراضها وأطماعها وصراعاتها الحياتية ، ويستطيع المتابع لأعماله بسهولة أن يتذكر الآن عدد غير قليل من قصصه التى تسرح فى هذه المساحة الرحبة من الابداع بحس فلسفى انسانى وبرؤى فكرية راقية .
هذه السمة على وجه الخصوص تأخذنا مباشرة الى سمة مجاورة وملتصقة بها ، بعد التلميح الذى لا أجد له معنى ولا قيمة - مع توفر الأدلة والشواهد - على مرجعية هذا الفنان الاسلامية ، فأعماله خلفيتها ورؤاها وتصوراتها تعبر عن فكره والتزامه وانحيازه للمنهج الاسلامى بأخلاقياته وقيمه ورؤاه ومفاهيمه ومقاصده .
أرى أن هذا هو سر تحرره من أسر القضايا التقليدية أو التنوع الظاهرى الكمى ليطرق مضامين انسانية غير تقليدية ، بعكس من يتخيل ويتوهم نفسه متحرراً وهو أسير موضوعات وقضايا بعينها مخاصماً المرجعية الاسلامية ظناً أن هذا هو التحرر ومن مقتضيات حرية المبدع ، بل العكس هو الصحيح مع الخروج الى رحابة الشهادة والغيب والتاريخ والحاضر والمستقبل والانسان والقيم والعلاقات والمجتمع والأسرة والطفل والمرأة والأخلاق والأفكار والصراعات وتفاصيل الحياة ... الخ ، فهو أديب حر متنوع اكتسب تلك السعة فى أفقه وخياله وأساليبه وفنياته ومضامين نصوصه من منطلقاته وجذوره الفكرية الاسلامية .
تلك المنطلقات كفيلة بتوسيع مساحات الابداع والرؤى باكسابه مهارات وامداده بموضوعات غير متاحة لمن ضيق على نفسه بمخاصمة هذه الرحابة وتلك المساحات الفسيحة فكراً وأداءاً ، كحال جرير والأخطل عندما سئل عنهما سليمان بن عبد الملك فقال " الأخطل ضيق عليه كفره فى القول ، وجرير وسع اسلامُه قولَه " ، فمصطفى حمزة وسعت عليه رؤاه الاسلامية ومنطلقاته القيمية فى اتجاهات عدة سواء على مستوى المضامين وعمق المعالجة أو على مستوى الأسلوب الفنى الذى ألمس تأثره الثرى بالقرآن والسنة .
فى هذا النص " اللعنة " نقرأ بوضوح هذه السمات ؛ فتلك احدى تنويعاته على جيتار المضامين ، وهى معزوفة راقية يفهمها المستمعون المستمتعون باللحن والأداء كل بحسب ميله وهمومه وجنوحه واهتماماته ، ولا يؤثر هذا العمق والغوص لا فى مقدار المتعة ولا فى فنيات النص ، وقد يذهب أحدهم الى " اللعنة " التى حلت على بنى اسرائيل ومثيلاتها عندما جحدوا أخاهم النبى وتنكروا له ، واللعنة تطال كل من اتصف بهذا الجحود والقسوة والنكران للأخ والقريب والعشير والصديق فى أزمته ومحنته ، كما حلت ببنى اسرائيل تتلوها وترددها الأجيال جيلاً بعد جيل .
وهنا قراءات انسانية حياتية شتى لقصص جارحة للانسانية وللمشاعر ، وهى حقيقية أبطالها من بنى آدم ولحم ودم لكن بلا قلوب ولا ضمائر ولا قيم ولا مبادئ ، وفى الفرج واليسر والنعمة تسمع منهم معسول الكلام وتظن من فرط ما يتفوهون به من عبارات وشعارات أن الرجولة والشهامة لم تخلق الا لهم ، فاذا ما وقع أخوه ابن أمه وأبيه فى ضيق وأزمة تحول مناضل الأمس العنتر الهصور الى فأر جبان هارب مذعور ، يدور على البيوت يبحث عن مخبأ ، واذا لجأ اليه أخوه فى ساعة عسرة أغلق دونه بابه وأصم أذنيه ، حتى اذا أذن المولى بانفراجة وكشف للغمة ، غطى الربيع بزهوره وعبيره وسلامه على شتاء العواصف والأحزان وبقيت اللعنات تطارد هذا الرعديد الجبان طوال عمره .
وفى المقابل تظل سيرة المناضل المبتلى المجروح زاهية محفوظة بالاجلال ، وفى الحديث " أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم ، نبى من نبى من نبى " ، فهذا أكرم وأنبل وأجمل ولا يعيب ذكره ولا يخدشه لعنات تاريخية تصيب بعض أهل بيته وان طلبوا الاستغفار وأظهروا التوبة .
وقد تفهم المعزوفة الجميلة من زوايا اسقاطات حضارية كونية ، فالصراع لا يزال قائما بتبادلية غرائبية لكنها مقدورة لأهداف وغايات وفق سنن مفصلة متقنة لمثل تلك الصراعات بين شعوب وأمم من المفترض أنهم اخوة وأبناء عم ، وقد خلقهم المولى ليتعارفوا ويتعايشوا ، لكن منهم من ورث نبل وكرم وجينات يوسف ومنهم من فيه لؤم وأحقاد وجحود وقسوة اخوته .
وقد يعترض بعض الحاضرين على تلك الرؤية ، مشيراً الى أن بنى اسرائيل والصهاينة لم يبلغوا معشار قسوة بعض العرب وبعض حكامهم تجاه اخوانهم وأشقائهم من عرب ومسلمين ، واذا هجر وطرد الصهاينة من المسلمين والعرب وتركوهم فى عراء الظمأ والبرد والفقر والغربة ، فما عذر العرب وما مبرراتهم وهم يغلقون أبوابهم دون اخوانهم وأشقائهم المفتونين بالمحن المبتلين بالكوارث السياسية والانسانية ؟
بل ليس أيضاً من هذا المنظور وحده انما الجحود كذلك من أبناء الوطن الواحد والدين الواحد واللغة الواحدة ، ولأن الأديب حمزة نشأ على أساليب القرآن فقد نهضت طباعه وملكاته الابداعية والأسلوبية على تلك السعة البلاغية التى تظهر جلية عند التذوق والتلقى ، فأية سعة أروع وأشمل من هذا التنوع والتعدد ، لنقرأ نصاً واحداً من خلال تلك الزوايا وبتلك الاسقاطات التى لا يكاد يرجح أحدها على الآخر .
وقد نرجح حديث الثورات وأزمات الشعوب مع الحكومات والسلطات الجاحدة التى لا تكاد تفتح للمستضفعين باب مأوى من شورى وحرية وعدالة ومساواة ، فالحاكم المتسلط يظن أن الوطن ملكه وحده " أخرج من بيتى " ، وأنه المتحكم والمسيطر والوصى على ثرواته " زادى " ، وأن من يواليه ويطيعه ويداهنه فقط هو " أهله " ، ومن دونه من المعارضين المخالفين له فحظهم السخط والطرد والتشريد ، فضلاً عن التعذيب والقتل .
انها القسوة والجحود تجاه أبناء الانسانية أولاد آدم وحواء " ابن أمك وأبيك " ، وتجاه الأشقاء من أب وأم واحدة فى أسرة واحدة ، وتجاه أبناء الوطن لمجرد اظهارهم الرغبة فى التغيير والحصول على بعض الحقوق .. " ثم دارت الأيام وهل الربيع " ، فالظلم لا يدوم ، انما تدوم اللعنة السوداء على الجاحدين الظالمين المضيعين لحقوق الاخوة ، وسواء كانت هذه أو تلك فهى تخدم رؤية الأديب وأبعاد وجذور معالجاته لقضاياه ؛ فالاسلام الحضارى ينكر ذلك السلوك الأحمق الاجرامى بين الأمم ، وشريعته تأمر ببر أولى القربى ، وتعاليمه وآدابه تثنى على الرجولة والشهامة والنخوة والنجدة .
الأسلوب هنا تنوع كالعادة بين الحوار والسرد ، وهى اضافة لاكتمال قضية تأثر الأديب بالقرآن فى سعة المضامين وتعدد أوجه التأويل والأسلوب .
الصور الفنية عنيفة وقاسية ومزمجرة مع ضراوة الجحود ووحشيته " أخرس الرحم " ، وحانية مشرقة دافئة مع التغيير المنشود " هل الربيع " ، " حضن الأمان الخائفين " ، " التحفوا بالسكن " .
الصورة الفنية الكلية شاهقة ومدهشة ؛ فاخوة يوسف لم يعودوا كثرة انما تضاءلوا مع مرور الزمن وأصبح الجاحد الناكر واحداً فرداً وان تكبر وتغطرس فهو ضئيل متهافت ، وصارت الكثرة فى صف يوسف " وهؤلاء أبنائى " ، فقد ورث نضاله الوارثون ، بعد أن وعت الشعوب وتدربت على نكران الظلم والجحود ومقاومة الفساد والعنصرية والتفرقة والسجن والاضطهاد الذى " أمسى ما كان من سالف العصر والزمان " .. وهو ما يناضل من أجله المناضلون " الحقيقيون " .. لا " المزيفون " و " المدعون " .