عشت فى قريتنا بالصعيد حوالى 12 عام, لم أغادرها إلا بعد حصولى على الشهادة الإبتدائية وإقامتى فى بيت عمى بالمركز, وقريتى كانت صغيرة, تفوح منها رائحة الفقر والمرض وظلم الأيام!!, فى وسط القرية كانت هناك شجرة توت كبيرة تتعالى فى شموخ راخية" فروعها فى دلال مثل بنت جميلة أرخت شعرها الناعم على جبينها!!, هذه الشجرة كانت هى أولى محبوباتى, كانت حبى وعشقى الأول, إذا غضبت من جدى أذهب لأجلس تحتها, إذا عدت من كُتاب القرية أجلس تحتها لازاكر ماقاله الشيخ أحمد بُطيط شيخ الكُتاب, ولم أكن أنا الوحيد الذى أهتم بها, لكن, جميع أفراح القرية كانت تقام عند التوته, جميع معازى القرية عند التوته, جميع جلسات الصلح بين العائلات كانت تتم تحت التوته!!, وبما أنها كانت فى وسط القرية, كان دائما يجلس تحتها وحولها رجال كثيرون يتناقشون فى أحوال القرية, وأحوال الغيطان ودودة القطن, وبقرة الشيخ حمدان التى سقطت من أعلى الجسر!!, كانت كل نساء القرية لاتجراء واحدةٌ منهن أن تمشى بمفردها بالقرب من التوته حيث يجلس الرجال, كانت التوته هى رمز التالف والمودة والتكافل بين أهل القرية, وكانت بالنسبة لى هى البير التى ألقى فيها كل أسرارى الطفولية العنيدة.
لماذا إختفت المودة والتألف والتكافل بيننا؟ هل نحتاج شجرة توت؟
وكبرت, ودارت برأسى وبأفكارى الايام, وانتقلت لبيت خالى فى بورسعيد لكى أكمل دراستى الثانوية, لكن إحساسى بشجرة التوت كبر ونضج وأخذ معانى جديدة, وجدت اهل البندر يرمزون لورقة التوت بمعنى العفة, وعندما يقولوا سقطت ورقة التوت يكون معناها سقط الحياء, فضولى وتمردى جعلانى أسعى لأعرف مساحات الحياء فى عالم البندر والمدينة, لكنى وجدت أجساد شبه عارية للبنات, رجال أحترفوا الرقص الشرقى فى الفنادق(محمود شاكيرا, وتيتو سيف)... برامج تليفزيونية تناقش الجنس وأسرار البنات والمراهقات.... ملاحيس ومهابيل يتحدثوا عن ضرورة تطوير الخطاب الدينى فتكون أول معالم هذا التطوير(أننا ليس بيننا وبين اليهود عداوة فى الدين, لكن أغتصبوا الأرض)... ومن يفتى ( التدخين فى نهار رمضان لايفطر)!!... وعندما يسئ الدنماركيون للرسول يأتى من يقول ( الراجل مات خلاص بلاش نجيب فى سيرته).. دارت رأسى وتمنيت أن أعود لأجلس تحت شجرة التوت فى قريتنا من جديد, حيث معنى الحياء, وحيث المودة والتراحم والتكافل بين الناس.