وأخيرا طويت الأرض ، وتلاشت التضاريس ، واهترأ المكان، وتوقفت أنا هنا في رواق الهروب ...
هنا حيث رحل الزمان من معاقل الملوك ، وانقضت الرؤى في مخادع الحرائر ، واستحالت سجلات الوجود أرجوزة قانطة في صمتك المهيب .. أيها الجدار !
عندك صار الليل نادرة ساخرة في منادمة النفوس الظليمة ، ومع امتدادك غدا النهار وساوس شر في تعاويذ السفهاء الكئيبة ، هنا مضت الحياة تنفض عنها فتات بشر كانوا ، وتفض عن الحلم تلاعبه فيعود خجلا يواري فاجعة أمل دغدغ وجوده ...
وسرت أنا على عثير الحرية أحذر الرجاء ، فثار في وجهي قيودا ترسف في ضحكة العبيد !
الخوف والحياة وجهان لعملة لاتتقادم ، ظلام ووحشة ، وحدة وبكاء ، تلك طقوس الخوف في وجه الحياة ، وأصداء الحياة في جبروت شموخك !!
ضربت يأسك بيدي فزفرت رائحة ماض أزكمت ذاكرتي ، تلك هي رائحة القبور وقد أرخيت عليها دثار الفناء .
في أديمك المترامي سطَّر العشاق هنيهات وصالهم أملا في الخلود ، ومن أبعاضك المتراصة أقفلنا الأجداث على أب ثوى ، وأم ثكلى ، وطفل كان يوما تجربة للبسمة ...
انقضى الجميع وظللت أنت راسخا كهرم في حضارة الموت
************************
في مراحلي التي تحيرت دروبها مجاهدا ، كنت صوت "اللا" ، ورَجْع الفشل ، وتلاوم الحظ العاثر ! لم نكن نصارع الحياة كي تمنحنا حقنا في الوجود ، بل كنا نتسلق قسوتك كي نقهر صدودك في آمالنا ، كنت الغريم في النجاح ، وها أنت اليوم الدليل في الترحال
لعل صرخة شاردة من زنزانة القهر تُذكي في وعيك ، أنين سجين عاقر لونك الداكن سنينا من عمره الضاوي ، رسم فيك دمعة أرقة في عيني الحبيبة النائية خلف القضبان ، وسمع من بين خطوطك ضحكات الطفل المتراكم في طابور الأيتام .. وعليك كان تأبينه حاضرا وغائبا ، حيا وميتا : ( في يوم كذا جاء (...) إلى هنا ، ويوم كذا رحل (...) من هنا ، وإلى يوم كذا أظل أنا الجدار شاهدا ألقا على عبوره "هنا " )
أيها الجدار النادب على الإنسانية كرامتها ،،
أشكو خذلان النفس في معركة التقى ، وازدحام الإثم في سطور الكتاب ، وضياع الهمة في آصار الوهم ، نزوة في شهوة ، واستعلاء في باطل ، وتقصير في طاعة ،و على الأفق البعيد ينتصب حجاب من سلالتك الباهتة ظاهره المتعة ، وباطنه حبائل الشيطان وغوايات النفس الفجور
وفي ذلك كله يذوى العمر وكأنه سفر لا ينقطع ، وفارس لايترجل ، وساقية لا تصدأ حلقاتها
وأنت ما زلت صامدا تصارع ريح الفانية
************************
واقعنا جدران متعاقبة من الفصل بين الغني والفقير ، القوي والضعيف ، الظالم والمنظلم ، الشعبي والنخبوي ... مجتمع يتلاحم على سراب ، وقبيلة تلتئم على عصبية ، وهوية تتطاحن على الوطن ، ووعود تتراقص على حقوق المواطن ..!
توارثنا حكايا من العادات أطلت برأسها من زمن قديم ، تكبح تطلع العقل ، وتقتل روح المعرفة ، وتوري لظى الطبقية وتعكر صفو الطائفية .
في عالم القطب الواحد جدارن من أناسي ملونة ، تفصل بين شمال العالم وجنوبه ، الشمال المتعالي بالاستعمار و التقامر بالثروات ، والجنوب المتهالك من سطوة الفقر ، وتفجّر الجهل !
فلا الشمال يرضى إلا بمزيد من الغلبة والهيمنة ، ولا الجنوب يتطهر إلا بكثير من السُّخْرَة والتبعية !!
جدار الفصل العنصري بين الضفة وغزة في الوطن الجريح ، وجدار المبكى في الأقصى السليب ، وجدران الحدود الوهمية بين ردهات الأرض العربية الواحدة ... كل ذلك هي بركاتك التي تنظف بها العالمين ، وتنعش بها أطماع اليائسين !
************************
قد انطوت لي معك وريقة من ألم اقتبست سطورها من انحاءة ظلِّك على صفحات أحداثنا ، وبقي اتهام الحقيقة لك بأنك نية إعدام لفكرة طافت في الممنوع ، وحامت حول حمى المحظور ...
ها أنت كل حياتنا الماضية ، و بصمات تعاقدنا المستقبلية ، فلماذا نرفضك في وعينا ؟
هل تراني أنسج الأمنيات بأن تزول كأناشيد الحالمين باللا عودة ؟ لا ، لأني حينها سأرحل إلى عالم ليس فيه لذة محاولة قهرك أو مثوبة مجاهدة تدميرك ، وحينها لن يكون للحياة معنى ، لأن الحياة التي تجف منها المحاولة إنما تنشر فيها أعراس الفناء ، وذلك لايكون في عمر البشرية إلا في يوم كان مقداره ألف سنة مما يعدون
دمت يا جدار صدىً للهروب
*************************
منقول : أ/ غادة