أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: موعد

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 920
    المواضيع : 188
    الردود : 920
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي موعد

    موعد
    إلى ذلك النجع القديم قدم جبال
    الجرانيت المحيطة به؛ في جنوب الوادي. كانت رحلتي لعدة أيام. ؛ألتقي فيها بأهداب أرحام لنا بعدنا عنها سنوات، في غربة سعيا وراء الرزق.

    فى ضحى الأيام الدافئة ، وتحت الشمس الحنون، وإلى جدار بيت طيني عتيق كانت هي هناك ،وكنت أراها تقعد القرفصاء،تدندن بصوت خفيض ،، لا ندري ما تقول .. وربما كانت تستعيد أغنيات زمانها .. أو أنها تجتر ذكريات حبيبة إلى قلبها.أحفادها يمدون إليها بكوب من الشاي الأسود وإناء به شي، مخبوز على هيئة أصابع جافة.
    تنهي واحدة منها بالكاد، وتعاف نفسها ما تبقى ،، فتدفع بالكوب و بالإناء ، إلى غير بعيد عنها.
    تمسح فمها بأطراف وشاحها الأسود، وتمتد يدها بذات الوشاح، لتمسح عينيها اللتين ما فتئتا تنهل بالدموع. إنه قدركثير من العجائز في صعيدنا ؛ مع قلة الوعي ،والفقر، والريح التي تثير الغبار ، والبيوت المتربة، أن يصبن بأمراض العين.. بدءا بالرمد وحتى المياه الزرقاء التي تسكن العين حتى العمى.وربما في مرحلة الرمد ،قد وفروا لها علاجا بسيطا من صيدلية مجاورة ،وربما كان منتهى الصلاحية.
    ثمانون عاماً وبضع سنين، تحملها على كاهلها ، بعد رحلة عناء طويلة.في تربية ورعاية بنات أربع،وتزويجهن . فاستهلكت أصابعها وعينيها في غزل الخيوط ,وضفر سعف النخيل فتحيلها الى طواقي و قفف وسلال وحصير .. تحمل منتجها في نهاية كل اسبوع الى سوق المدينة في الجوار.
    مع قلة مصادر الرزق، وضيق الأرض ،لا أحد هنا يهتم كثيرا بأحد. ولا أحد هنا يبذل أدنى جهد لإثبات حق أحد؛ إلا النذر القليل ؛ فبعد أن توفي زوجها منذ ربع قرن ، في حادث اصطدام سيارة به وهو يعبر الطريق، واكتشافها لمؤامرة الميراث المعهودة في ريفنا المصري، والتي وفق قواعدها الجائرة ،قد حرمتها وبناتها من حقها في الزرع والضرع والمال السائب, آلت على نفسها أن تكون من المكافحين حتى انحنى طهرها وتقوس عودها.ولولا حوائط أربعة لبيت ضيق ورثته عن أبيها،لكانت هي وبناتها في العراء فرائس لوحوش السهل و الجبل. ولولا بناتها وما يحصلن عليه من أزواجهن وأبنائهن، لماتت جوعا في بيتها العتيق.
    #####
    كان الحزن رفيق وحدتها، ومؤنس غربتها منذ أن مات عنها ولدها البكر الوحيد، متاثرا بلدغة عقرب في حظيرة البيت ليلا، وعمره لم يتجاوز السابعة عشر.والذي كانت ترجو فيه سندا بعد أبيه.لو قدر له أن يعيش، لكان الٱن رجلا على أبواب الأربعين.
    #####
    وهو ابن عمومة قريب من بعيد. ورث عن أبيه أرضا زراعية شاسعة،ثلاثة من الأخوة، وثلاث من الأخوات.كانوا صغارا لا يحتملون عملا شاقا في الحقول تحت الشمس الحارقة ،والبرد الشديد.غير أنه احتمل ذلك كله كرجل رشيد، وهو الذي جاوز عمر الصبا بسنوات قليلة.كانت أمه داعمة له بالغذاء والدعاء. حتى كبر الأخوة وطرقوا باب الرجولة بشدة ،. جاوز البنات عصر الطفولة إلى بهجة الأنوثة وأحلامها.
    وكان هو السند إلى جانبهم حتى تعلم من تعلم وتوظف من توظف, وتزوجوا جميعا. فكان لهم الأب والمعلم والمتابع والراعي.حتى تهاوت صحته وفقد بصره من خطأ مشترك بين تسرع طبيب الوحدة الصحية، وتخلف وتدني الرعاية صحية.
    لزم بيتا مجاورا لجليسة الحائط.وكان ما اعتاد عليه هو أن يتلمس خشونة الجدار وتتابع الأبواب، مستندا إلى عصا عوجاء ،في مسيرته العرجاء،فينادي اسمها، فترحب مرحبة به جليسا إلى جوارها. وكانا يحتسيان الشاي المقدم لهما من أولادها وأحفادهما. فمن يطالع جلستهما معا ، يبادر في إخراج ما يحلو من طعام وشراب.
    كانت الأحاديث تتري، والحكايات الهامسة بينهما تطول ؛حتى يأذن الظل بالانكسار. فيتابعان جسلتهما بعيد العصر حتى تأذن الشمس بالأفول عند الغروب.
    والعجيب أنهما كانا يخرجان في وقت واحد ،وكأنهما على موعد محدد ،فكل منهما يعلم بوجود أحدهما في ذات المكان في ذات الوقت.
    ورغم أن حياتهما مرت على صورتين متناقضتين. فعن ماذا كانا يتحاوران إذن، وفي أي حديث كانا ينهمكان ؟
    فحياته رغم مشقتها، لم تنته بالجهود والنكران، فأخوته وأبناؤهم قد ردوا له الجميل رعاية وبرا وامتنانا.
    وحياتها بدأت مشقتها بالجحود والنكران، بمن أنكر حقها وبناتها في ميراث تستحقه،فآلت على نفسها ،أن تقوم بمسؤوليتها دون تردد أو شكوى.
    كانا يستأنسان ببعضهما. لا بجرؤ أحد أن يزعج جلستهما.ومن من المارة يهتم بعجوزين قد جوازا الثمانين في سمرهما وأحاديثهما معا.
    حتى أصبحا معا، من علامات ذلك الدرب؛ فإذا وصف عنوانه، فيوصف بأنه درب العجوزين.
    ####
    عند زياراتي للنجع،كنت آنس بالسلام عليهما ومجالستهما بعض الوقت.
    وغبت، وإذا غبت عن مراتع طفولتك ومثوى أجدادك ،فعند عودتك، حتما ستجد الحكايات الحميمة في انتظارك.
    ###
    يوما ما ، نقل الرجل الثمانيني إلى الطبيب،،،،؛ قيل بانفجار في المرارة.في المساء نعاه الناس بصراخ ونواح وعويل في أرجاء النجع.
    في بكرة الصباح التالي ، نعاها أهل بيتها بصراخ ونواح وعويل ، ماتت أنيسته في جلستهما قدام الحائط؛
    لقد رحل النديمان معا.
    ####
    وقف حاملو نعش الرجل أمام بيته؛ تقدموا قليلا نحو الشارع الرئيسي. حاول الرجال استئناف المسير به نحو المقابر، إلا أنهم ما استطاعوا أن يتخذوا خطوة واحدة ،وما استطاعوا له حراكا، ولو لبضع سنتيمترات. وبين تهليل الرجال وتكبيراتهم ، ونواح النسوة وصراخهم، وقف الرجال المذهولون، وكأنهم قد تسمروا في مكانهم، حتى لحق بهم رجال آخرون ،يحملون نعشها.عندها ،تحرك نعش الرجل،واستأنف الأنيسان سيرهما معا ,نحو مثواهما الدنيوي الأخير؛ رحم الله ( البكري) و(سكينة).

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,138
    المواضيع : 318
    الردود : 21138
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    من أعماق الواقع المحيط بك تأتي لنا بقصص خلابة
    وبقدرة الكاتب وخياله تستطيع التقاط اللحظة الإنسانية الكاشفة
    في حياة أبطالك، وبقدرة على الوصف، وبأستغلال لطاقة الشد والتشويق
    فيها إلى أقصى درجة ـ ومن وحي معاناتهم وتصوير مشاعرهم.
    هذا القبض المحترف على اللحظة الإنسانية في عمقها ، والتداعي في الجمل الكاشفة
    هو أحد مواهبك ككاتب فتأخذ القارئ معك إلى زروة التماهي والاستمتاع.
    تحياتي وتقديري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 920
    المواضيع : 188
    الردود : 920
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    يسعدني تواجدكم الآسر بالود والتذوق الراقي.
    وتحليلكم المفعم بالخبرة الحياتية والفنية.
    أصبت فيما ذهبت إليه في تعليقك المفصل ذي النظرة الشمولية.
    ولولا النقاد ما أبدع المبدعون .
    حمدلله على سلامة الوصول.

  4. #4
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,138
    المواضيع : 318
    الردود : 21138
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    آبا العجوزان إلا أن يترافقا في مسيرهما معا نحو مثواهما الدنيوي الأخير
    كما كانا يستانسان ببعضهما في حياتهما.
    قص ماتعة بأسلوبها الأدبي الرشيق ومعانيها الراقية
    صياغة محكمة ووصف دقيق بأسلوب راق وخيال خصب.
    اشتقنا لحرفك أديبنا فلا تبتعد كثيرا.
    دام نبضك وألقك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي