ارتعاشة آخر ليلة
يرتجف المدى في أعماقه، ينحدر إلى مساحات أنفاسه، يتسلّل إلى زوايا حادّة، ضاقت بعتمة الأزمنة وجفاف المكان، عتمة تغازل انطفاء المصابيح، تلقي بعباءتها فوق الضوء الشحيح المندلق من نافذة مرتعشة بالصدأ، روحه التائقة للتحرر من قبو سنين الأسر تمخرالعتمة، تسرج لهاثاً مثخناً برائحة الانتظار، قاب نبضة قلب عليل أو أدنى من شهقة عاشق، فيشهد انطفاءة سنوات العزلة، ما هي إلّا ليلة وينضوي في هدأة البوح، بوح مبلّل بندى يشبه الدمع. محطات وجع وألم غادرته، لكنّها نهشت ملامحه، هصرت قلبه هصراً بأنياب الحنين والقلق والخوف، الحلم بمداه اللامتناهي يتشكّل حقيقة عند ظلال الرؤية، لم ينم تلك الليلة، أنّى يأتي له النوم وقد طال الغياب؟ تطاولت عيناه نحو آفاق مطرّزة بالنقاء، تضوّع شرك الجنون دون وعي، حلّق بعيداً في سماء قِطافه، يحفي به خيط من نور تسلّق وهجه،أطلق أنفاس اللهفة بقدر السنين وأيامها وكلّ عذاباتها، عانق كلّ شيء في دربه، الأشجار، المارّة، أرصفة الطرق التي احتضنت خطواته بالأمس، استأنس بصدى مُتخيّل لصوت وليده الذي لم يرَه، صدى يترقرق كماء عذب في نهر ذاكرته، ماهي ملامحه؟هل يشبهني أم يشبه أمّه ؟هوى في لجّة اللقاء، يتدارك دمعة صفعت وجه الأقدار، دمعة تشهق بأحلامه المفقودة على ضفاف وطن تعثّر بغيابه، زوجة هناك أسيرة وحدتها، مسكونة بترقّب مدمّر، تجوب قصور الصمت، تذرع مسافات الألم والحنين، حالمة بفضّ معالم غربتها، يراها مع الصباح المضيء بما تبقى من أحلام تفتح ذراعيها عن بعد ظمأى للعناق، سرت في جسده رعشة هيام من مسّ جبهة صبرها، نشوان يرفل بدفء أنفاسها، صدى ولده لم يكن كما تخيله، كان صراخاً موجعاً يرتجف بغصّة أيام خلت، أيام صُلبت على جدار الخوف ووحشة الظلام . صدمته الذاكرة بأنين الموتى، جثث ممزّقة تُركت منسيّة عند حافة حرب قذرة قبل وقوعه في منفى الأسر، كان المجهول يحدّق بشراسة في وجوه أتعبتها الأسفار وهول الجحيم، كانت الأرض تلتهب ناراً، والسحب تمطر وابلاً من حمم بركان يفور بشهوة الموت، الأجساد الملتحفة بغطاء البقاء تنتظر موتاً من نوع آخر، حينها صار الوطن أرقاً، وفي صحراء الحرب الشاسعة كان الجنود يلوذون بظلال أنفسهم، وظلال أدعية تنطلق إلى السماء. كم من وجوه بريئة غيّبها عبث جنرالات الموت ونزق الذئاب الماكرة،
" آه لشدّ ما عذبني رعب الحرب وانهكتني سنوات الانتظار"
كتم زفرات لوعته حين أعياه غياب ملامح رفاقه إلى الأبد، احتضن ماتبقى من أرواحهم، صدى أحاديثهم، ذكرياته المتوهجة بزينة الدمع وصهيل الوجع، كانت مرايا تلك الليلة تستغرق كلّ كنوز الترقب والذكرى، كان عليه أن لاينسى امرأة تتأهب في ظلّ انتظار حارق مع ابنهما لترقد تحت قبة ظلّه، ها هما يحدّقان بعينين نهمتين في وجهه اللامع بانعطافات العزلة، عبر نافذة خرائب الوحدة وحيرة الطفولة المقتولة قرباناً لآلهة الحرب. التهم الليل صراخه المخنوق في أعماق صمته. ليلة تمتدّ بقدر سنواته الموحشة، التهمه الحنين، تهرع إليه الأعين والنظرات المرتعشة، ممتشقة وجه الفجر، يسمع صوتها من بعيد، شعرها ينسدل على ذراعيه فيغمزعطرُها أنفاسَه بجنون الرغبة، أنوثتها تطرق باب القلب، تضيء بانشودة الحرمان:
"آه أما لليل من منتهى؟ "
ارتشف نبيذ ما تبقى من وهم الزمن المعتّق بجمر الاغتراب، يتلو صمت المنافي الشقية على تخوم الجوع والحرائق والحرمان:
" أ ترى يأزف قبل موتي ذلك اليوم السعيد، يوم ألقى بالصلاة والنشيد، فأضمّ قلبي إليها، وعلى الصدر تمثالاً لربّي أقيم، أسقيه درر الحلم وعطر الياسمين ... أترى القاكِ هدى؟! أم يبقى ردّي شارة للغابرين، يحكي انتظاري في جنون للبحر والمبحرين؟"*
حدّق في وجه السماء أكثر من مرّة، ما يزال الليل يرقد عند ساعاته الأولى، لم يكن منه إلاّ أن ينشطر شطرين، شطرمجنون بالعشق واصل المسير، يلهث بخطواته نحو روحه التي هجرها، وشطر آخر يعاني من ثقل الانتظار.
*نادر هدى/ مملكة الجنون (مجموعة شعرية)