الفصل الثاني
[IMG]
[/IMG]
أميمة : يوم ذاك قمت بتحضير اللحم المشوي ..و في الردهة المؤدية إلى غرفة المعيشة وقفت أحمل طبقا من الخوص فيه أصناف من الفاكهة الطازجة ، كانت الساعة تدق العاشرة مساء ..ما جذب انتباهي هو خيال قاتم طويل يتحرك نحو السيد سليمان في خطوات متباعدة ..في ضوء الفلورسنت الباهت امتدت يده إلى كتف سليمان لينتزعه من غفوته.
صاحب الخيال : أفق أيها الناعس و لا تترك عينيك تنطبقان مجددا ..جئتك لأمر هام .
انتفض سليمان و ارتعدت فرائصه كما تفصد العرق من جبينه بسبب الاضطراب المفاجئ و ظل يرمق صاحب الوجه الكئيب بنظرات الدهشة قائلا : يا إِلهيّ ، كيف ولجت إلى المنزل؟
صاحب الخيال : لدي نسختي الخاصة من مفاتيح المنزل يا غالي.
سليمان:انقضت سنوات طويلة لم نتصل فيها و لو لمرة واحدة..لم نتحدث ..لم ..و صمت للحظات و عاد ليقول ((أخبرني عن أسباب مجيئك في هذا الوقت المتأخر)).
بدا صاحب الخيال موشكا على الجلوس حيث مال إلى الأمام , ذراعاه على الطاولة المستديرة و يداه مضمومتان بخفة أمامه و على وجهه تلك النظرة الماكرة ..عبث بأزرار قميصه و بدت شفته السفلى عالقة بين اضطرابه و جلس بحذر ثم همس قائلا : لطالما كنت أبحث عن الإلهام في تدبير أموري الخاصة ، ثم هز رأسه ببطء و ابتسم ابتسامة متشنجة شدت أطراف فمه لتجبره على تذكر الماضي، حتى أن كل خلايا يأفوخه اشتعلت بها بُروق الغضب.
كانت النظرة التي رمقه بها
سليمان نظرة ذهول و كأنما حقق إِنجازا مذهلا باجتذابه مثل هذه المعلومة منه ..تفحص وجهه بمسحة من السخرية ..
صاحب الخيال: ضيق الحياة ، خشونة العيش ، و بعض الضرورات قد تدفعنا للتنازل عن بعض قيمنا و فلسفتنا في الحياة ، أومأ بيده كأنه ينفض عن قلبه غبار الكآبة ..
و استرسل قائلا : عندما وافقت على خطبة ابنتي لذاك الشاب الذي يستأجر شقة في حجم علبة الكبريت لم أمتعض حينها ..حتى عندما صارحني بطرف اللسان أنه يتيم و لما استزدته في السؤال راغ عني بالجواب و انتقل إلى حديث آخر ، فشعرت أنه يستحي من حياته البائسة ..و التي ظفر فيها بشهادته العليا ، لذا كنت كئيبا معقود اللسان ، ينغصني هذا السؤال الغامض الذي لا يسأل فيه عن الفاعل و لا المفعول به ، و لا الحال و المآل ..سيطرت على عقلي و تصرفاتي رغبتي العارمة في إسعاد ابنتي ..لا أنكر أنني قضيت أياما مؤرقة ..تصارعني فيها هواجسي و هامت تخيلاتي فوق جبال العاجزين ، فالشاب ليس في مقدوره أن يمهرها بما تستحق ، أشفقت عليه و على نفسي و عليها من قبلنا ..لست أدري أتصح هذه الزيجة كما تحب ابنتي أم لا تصح كما أعتقد في كوامن نفسي ..
حملت ابتسامة
سليمان بعض التصلب ، أو ليس الأمر كذلك عند عامة الناس! لماذا أراك تتذمر الآن؟!
من البديهي أن تشارك خطيب ابنتك في تأثيث المنزل في حالة استشكال الأمر عليه ..دعني أقول هذا ..هل جئتني من أجل اقتراض المال؟
صاحب الخيال : نعم ..فلم أخطط للبقاء هنا أكثر من الوقت الكافي للحصول على مساعدتك و سأعود أدراجي فورا من دون الإِعلان عن وجودي .
لم ينتظر
سليمان ليسمع ما تبقى ..بل وقف على حين غرة على قدميه و اتجه نحو خزانة السلاح ..يصيح ((لن أقرضك المال أبدا)).
على الطاولة المستديرة أخذ إبراهيم سيجارة من العلبة الجاثمة ..ثم همهم قائلا ..لقد تحول الحديث فجأة إلى دهاليز الغموض ..كما لاحظ توتر أميمة لهذا كان مشغول الفكر بشيء آخر غير سيجارته التي لم يشعلها ..قال ببطء و كأنه وضع إصبعه على حل المعضلة : أرى في نبرتك خلافات نشبت بين سليمان و صاحب الخيال الغامض! أليس كذلك؟
أميمة : هذا صحيح ..فرفعت أصابعها خلال كلامها و تابعت ((الحفاظ على أسرار مستخدمي جزء من عملي ..موته كان صدمة كبرى و الأنكى من هذا امتلأ قلبي بالرعب عندما سمعت كلمات تشبه سجع الكهان و السحرة تخرج من ثغر سليمان دفعة واحدة حينما رفع يده في وجه الرجل .
إبراهيم : حسنا ..واصلي كلامك و أطلعينا عما حدث بينهما ، أعني ..أنني لا أريد لك أن تتورطي في تضليل العدالة ، و دس السيجارة بين أسنانه و كلمها بطريقة توحي و كأنها خارج دائرة الشك ..كانت القداحة لازالت في يدها و اشتدت أصابعها دون إرادة عليها و هي تجاهد لإبقاء صوتها طبيعيا غير مضطرب ..مدت يدها إليه قائلة : تفضل سيدي القداحة..و ضاقت عيناها بشكل خطير كمن تحدث نفسها خفية ..
و تابعت..أتذكر أن ذاك الرجل طافت عيناه بسرعة في أرجاء الغرفة فبدت بشرته الداكنة أكثر قسوة في الضوء الخافت ، تغطيه نظرة شريرة ، إنه وجه قوي،نحيل ، وسيم دون مجال للإنكار ، وجه رجل عميق غامض ، يرمق سليمان بنظرات حقد دفين و تابع كلامه قائلا ((أريد هذا القرض مهما كلفني الأمر، ما قولك لو أسديتك خدمة في المقابل؟))
عند سماعه هذا استدار
سليمان عن خزانة السلاح ، شفتاه مكورتان بتكشيرة ((سأقول إنها ممكنة، عملك في مصلحة الشهر العقاري سيكون مكسبا لأعمالي )).
ساد الصمت الغامض..بالرغم من ذلك لم تظهر علامات الذهول على الرجل كأنما لم يفاجئه الأمر كليا ..
ثم قال في صوت متزن : يا لك من رجل تهتم بأعمالك و مصالحك الشخصية فوق اهتمامك بأهلك و عائلتك ..يا لها من طريقة لكسب العيش ..لقد حذرتني أمي من قبل و أطلعتني بوضوح على ما يمكن توقعه منك ، إذ قالت( سوف يسعى سليمان للضغط عليك عاجلا أم آجلا لترضخ إلى تقديم تنازلات مقابل القرض ، و لكن لا تقبل أن يتفضل عليك فلا يوجد شيء بلا مقابل ..و الواقع أنها لم تتجاوز صدمة حرماننا من الإرث بالاتفاق مع أبي ..كيف اتفقتما على ذلك؟
سليمان : لا أستطيع اتهامك بالغباء يا ماجد ..لأنك لست غبيا ، الأمر ببساطة أنك قريب جدا من المسألة بحيث لا تستطيع النظر إليها بموضوعية ..رأيي أن الوالد قد اتخذ قرارا صائبا فيما تعلق بمسألة الممتلكات ..و الميراث بعد وفاته..
ماجد: ألم يكف طردنا من أملاكنا و قطع صلتك بـ..؟
تأرجح السؤال معلقا في الهواء ..هز سليمان رأسه : نحن أخان ، و هذا كل ما في الأمر ، و صب ما في قلبه لأذنين أرهقتهما الأعذار ..دون أي حرج و دون إخفاء شيء .. و دون الوعد بشيء ..أكمل يرفع يده احتجاجا: ثروتي هي نتاج تعب سنوات طويلة ..كان واضحا للجميع أن أبي لم يوظف ما كسبه من أموال في مصالح العائلة ..كما تزاوجت تجارة السلاح مع عمليات غسيل الأموال في حياة أبي ..نعم ..ورثت هذه الأعمال عنه و نجحت في إدارتها لهذا أنا الوحيد المستحق للثروة الضخمة ..أتساءل إذا كان الأمر يستحق كل هذا الغضب و الكره؟!
ثم صمت للحظة و عاد ليقول :أعرف رأيك و ماذا ستقول ..نحن من عالمين متباعدين ، و هذه هي المشكلة ..أنت تراني مجرما ..و لكنني أظن أنه مع الوقت قد يتقارب الشقيقان حتى و إن اختلفا في بعض الطبائع ..كم أكره رؤيتك في أزمة ..لكن لن أدفع أموالي بدون ضمان سداد..
في تلك اللحظة ظهرت عين ماجد مليئة بالحسرة و الغضب و جاء صوته عميقا مليئا بالمرارة ((كم تشبه والدنا الراحل ))..أخذ يحدق في خاتم سليمان البلاتيني ثم عقد حاجبيه ((لا ريب أن ثمن هذا الخاتم يكفي لشراء أثاث غرفة أو أكثر)) فقال متحديا ((حسن جدا))..
تراجع فجأة عندما لمح انعكاس صورتي في المرآة ((هكذا قالت أميمة )) و قال بلهجة تصرف النظر : في وقت آخر نكمل حديثنا ..
أجابه
سليمان بنبرة لاذعة ..أترغب ببعض الشاي ؟
ماجد : سيكون ذلك رائعا..
سليمان : أظنك تتحين فرصة مناسبة للانتقام مني على ردة أفعالي..
ماجد : عم تتكلم ؟ كيف وصلت إلى هذا الاستنتاج بالله عليك؟
ارتفع صوت
سليمان إلى وتيرة مرتفعة جدا ..ألا ترى أن إبعادكم عن حياتي ..و قرار الوالد بتنفيذ ذلك كان السبب فيه ..
ماجد: لأنه ترك لتحيزه أن يلون تفكيره ..لا يهمني كونه أغفل الحقوق و الواجبات ..و المساواة بين الأبناء ..حين نحب الأب لا نتوقف لنفحص عيوبه ..أنا لازلت أحبه..
ضحك
سليمان ساخرا لأنه أراد أن يوضح وجهة نظره ..تتكلم عن الحب يا ماجد!!
أرجوك لا تخلط بين الحب و الطمع ..مشكلتك الرئيسية أنك لا تصدق كم سهل معرفة ميولك و أفكارك من خلال نظراتك اللامعة العابسة مثل أسنة الحراب الطويلة ..
و هنا تنهدت أميمة قائلة ((لكن الغريب في الأمر بعد تناولهما الشاي توجها نحو الباب في صمت ..بينما ألقت أضواء المشاعل الباهتة غشاوة على كل شيء ، و ساعد ذلك على إخفاء قسمات وجه ماجد..
إبراهيم : مهما يكن فإنك أخلصت في عملك كمديرة للبيت كما يبدو ..فلا توجد أية آثار أو دلائل على وجود أناس يقيمون هنا!!كل شيء مرتب و لامع!!
لم تتغير تعابير وجهها إلا عندما التقطت سماعة الهاتف لترد على المكالمة الواردة في تمام الساعة العاشرة مساء ..و فجأة صكت أسنانها بقوة و شددت الضغط على السماعة هامسة ..سيدي ، هذا صوت نجلاء.
قال إبراهيم هادئا مرتابا : ماذا بك؟ يراودني شعور و كأن مجاج فمك قد جف ، من هي نجلاء؟
اتسعت حدقتاها و تسارعت دقات قلبها ،اقترب تنفسها من اللهاث الخفيف و رعشة سرت في أطرافها فيما بدأ يتفجر الدم في وجنتيها فتحولتا إلى الأحمر القاني ..و أجابته ..ليس هناك ما أخفيه سيدي.لقد كانت جريمة محكمة أفزعتنا جميعا ..سوف تفتح جراحا لا تندمل ..فالجيوب الخاوية ستغدو ملآنة بعد مقتل سليمان..عندما يطفو الاعتزاز بالإثم تجتثه عدالة السماء ..
و أسدل الستار على الفصل الثاني من المأساة...