لاحظت في أكثر من ردّ في قسم الشعر إشارة اعتراضية لصرف الممنوع خصوصا عندما لا يكون الشاعر مضطرا باعتبارها من الضرورات الشعرية الواردة تحت عنوان يحق للشاعر ما لا يحق لغيره، لكن هذا ليس صحيحا تماما، فإن منع الأسماء من الصرف هو اللغة الفصحى والأقوى التي يقاس عليها، لكن صرف الأسماء الممنوعة من الصرف متأصِّل في اللغة العربية إِذ إِنَّ النحاة أَجمعوا على أَنَّ الأَصل في الأسماء الصرف ، وأَنَّ منعها من الصرف علة طارئة، وقد أَشار علماء العربية إلى أَنَّ الأصل في الأسماء الصرف ، واللغة التي صرفت الممنوع من الصرف لغة صحيحة في القياس مع أنها قليلة في الاستعمال.
ولا بد هنا من فهم أن صرف الممنوع من الصرف لغة فصيحة من لغات العرب لا يمكن إنكارها ، أو تجاهلها ، يشهد لصحتها كثرة الشواهد النحوية التي صرفت الممنوع من الصرف . وقد أشار النحاة في مؤلفاتهم وآرائهم وتخريجاتهم إِلى هذه اللغة وممّن أكد هذه اللغة الأخفش ، والكسائي . ومن الشواهد الشعرية على ذلك قول الأخطل :
كَلَمعِ أَيدي مَثاكيلٍ مُسَلِّبَةٍ يَنعَينَ فِتيانَ ضَرسِ الدَهرِ وَالخُطُبِ البحر البسيط
ويرى الباحث أَنَّ كلمة ( مثاكيل ) قد صُرفت لا كضرورة شعرية حيث لا توجد علة توجب صرفها، لأن من جوازات مستفعلن في البحر البسيط الطي وبها كان للشاعر أن يستغني عن صرف الممنوع، والضرورة للشاعرة دون الزحاف حتى المستقبح منه.
وربما قال قائل أن الشعر يحتمل الخطأ، فنجد في الحديث النبوي من الشواهد قوله صلى الله عليه وسلم
" أَلَا إِنِّي أَوْتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا إِنِّي أَوْتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ ... " مسند الإمام أحمد .
وقوله " ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه " المستدرك على الصحيحين.
وقوله " مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِه". المعجم الكبير
وفوق هذا كله فإن القراءات القرآنية وقد وردت في القرآن الكريم ألفاظ خالفت قاعدة المنع من الصرف منها :
( سلاسلاً ) في قوله تعالى - : " إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلاً وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ” . سورة الإنسان
وهذه قراءة متواترة ، قرأ بها الإمام الكسائي ، والإمام نافع المدني ، وهشام ، وأبو جعفر المدني، وشعبة ، وهي قراءة سبعية . وقد خالفت هذه الألفاظ قاعدة الممنوع من الصرف ؛ لأَنَّها جاءت منونة مع أَنَّها على صيغة منتهى الجموع الممنوعة من الصرف ، وقد علَّل النحاة ذلك بتناسب هذه الأَلفاظ مع ما يجاورها .
وضبطت الآيات في رواية حفص عن عاصم " إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلاْ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا "
و منها كلمة ( قواريرًا ) في قول الله تبارك وتعالى - : " وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرًا ۞ قَوَارِيرًا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ” سورة الإنسان
حيث جاءت ( قواريرًا ) منونة في قراءة ابن كثير ، والكسائي وعاصم إلا حفصًا ، وأهل الحجاز ، وأهل المدينة ، وقد قرأ حمزة وابن عامر بغير تنوين.
وضبطت الآيات في رواية حفص عن عاصم " ويُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيراْ ۞ قَوَارِيراْ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا " .
ومنها ( تترا ) " ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرًا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ". سورة المؤمنون
حيث جاء الاسم المنتهي بألف التأنيث المقصورة مصروفًا في قراءة أبي جعفر وابن كثير ، وأبي عمرو
ومنها ( ثمود ) في قوله تعالى " كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودٍ" سورة هود وهذه قراءة الإمام الكسائي
وضبطت الآيات في رواية حفص عن عاصم " كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُوداْ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ " .
ومنها (عاد ) في قوله تعالى : " كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ". سورة الشعراء " كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ " . سورة القمر " وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى " .سورة النجم " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ". سورة الفجر
ومن الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم مغايرة لقاعدة الممنوع من الصرف ( سبأ ) في قوله – عز وجل – " فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ " سورة النمل
وذكر المفسرون وعلماء النحو أنَّ لفظ ( سبأ ) يصرف تارة ويُمنع تارة أخرى
وقد علل النحاة الألفاظ التي جاءت مصروفة في القرآن الكريم وقراءاته بأَنَّها للتناسب، أَو للإتباع وغيره وهي تعليلات تفتقر للموضوعية والدقة العلمية ؛ فلا تناسب ولا إتباع بين هذه الألفاظ وما جاورها من الكلمات في السياق القرآني .
ولما كانت القراءات اختلفت من الصرف ومنعه، وهي مادة لغوية غزيرة تفيد الدارسين وتجيب المعجز من الأسئلة، وتبتّ في الخلافات النحوية التي وقعت بين النحاة في العصور الزاهرة ، وما كان لدارس للغة العربية الاستغناء عن القراءات القرآنية في دراسته، فإن من نافلة القول التأكيد على جواز صرف الممنوع دون علة موجبة شعرا كان ذلك أو نثرا .