النص بين المباشرة و الغموض
تتزاحم المقالات النقدية المقاربة لهذا الموضوع ، و يتلاسن النقّاد على شاشات التلفزة و على صفحات الجرائد و المجلات ؛ و ينبري كلّ منهم لإبراز عضلاته في استحضار لغته النقدية المقعّرة و مصطلحاته الأكاديمية المعقّدة بأسلوب مبهم كي يحمل وسام الحداثة ودرع التجديد وكَيلا يُتّهم بالسطحية و المباشرة .
ويصدف أن يتعثّر أحد الأدباء المبدعين بواحد من هذه المقالات و يسحره العنوان فيتنهّد ملء صدره و يشرع في القراءة علّه يعثر على ضالّته ويجد الجواب الشافي لسؤال يحيّره و يقضّ مضجعه :كيف يصل النصّ إلى المتلقّي؟
فيصاب بالدّوار بعد القراءة الأولى ولا يفهم من النص إلا حروف الجرّ و الظروف و بعض الجمل و الكلمات ؛ و يقنع نفسه بأنّ التركيز جافاه في أثناء القراءة ، فيعود من حيث بدأ شاحذا كلّ حواسه مستحضرا ملكاته العقلية و الجسدية كلّها من أجل الفهم ؛ و يفشل مرّة ثانية .ثم يلقي بالنص جانبا و يغرق في التفكير :
لمن يكتب النقّاد نصوصهم النقدية ؟و ما الهدف من النقد ؟ و ما الأسلوب الأجدر بالاتّباع كي يصل النص إلى القراء،و يرضى عنه النقاد في آنٍ معا ؟
و هل يجب على الناقد أن ينزل إلى القارئ أم على القارئ أن يصعد إليه مصطحبا معه معجما غنيّا بشرح مبسّط للمصطلحات النقدية ؟
هذه الأسئلة تقودنا إلى طرح الإشكالية الآتية : لماذا نكتب ؟
البعض يجيب : بأن الكتابة تعبير عن الذات و عمّا يجول في ذهن الكاتب من أفكار و انفعالات و رؤى وتساؤلات حول الله و الكون و الحياة و الانسان ،بغضّ النظر عن وصول هذه الأفكار إلى المتلقّي .
والبعض الآخر يرفض هذا الرأي بحجّة أن الكتابة تصبح آنئذٍ ترفا زائدا و مناجاة للنفس أشبه بتداعيات عبثية مكتوبة ، لاتُسمن ولاتُغني من جوع ؛ويشدّد على أن النصّ يجب أن يصل إلى القرّاء المثقفين منهم و أنصاف المثقفين ، كي يتمّ التواصل و تحصل الفوائد المرجوّة من هذه القراءة و أهمّها :
تغذية الروح بما يحمله النص الإبداعي من جمال و عذوبة و إيقاع موسيقي .
تحصيل المعرفة و إضافة الجديد و المفيد من الأفكار و المَشاهد و الرؤى إلى خزانة المتلقّي .
الاستفادة من أفكار النص و لغته و أسلوبه في التغيير و التطوير وتصحيح المسار لدى القارئ و في توليد أفكار جديدة في تناصٍ فاعل و مُجدٍ، يُثري الساحة الأدبية و الثقافية التي تشكّل مرآة لتحضّر المجتمع و رقيّه ؛ فمقولة الفن للفنّ قد بادت و اندثرت و الإجماع منعقد على أنّ الفن للواقع و الحياة .
وإذا كان الرأي الثاني هو الأصوب فلا بدّ إذًا أن يصل النص إلى القارئ واضح الأفكار،سهل الأسلوب،محكم البناء،رشيقا في لغته،سلسا في تناوله، لصيقا بالقضايا التي تمسّ شغاف قلب القارئ ؛لا هو يلبس ثوب المباشرة و لا يختفي خلف قناع الغموض و الإبهام .
و هذا لا يُعفي القارئ من ضرورة الرقيّ بمعرفته و ثقافته و لغته إلى مستوى وسطي لا يَطلب فيه المباشرة و لا ينقم معه على الغموض و التعقيد .
عندها يتم الصلح بين الناقد و المبدع و يحلّ التحاور الهادف بينهما محلّ حوار الطرشان ، و يهزّ القارئ رأسه طربا لنصّ إبداعي تفاعل معه و سعِد بما تضمّنه من رؤى و أفكار و جمال ثم يحمد الله على قراءته و على عدم إضاعة وقته الثمين فيما لا يجدي ؛ و سيتمنّى أن يطيل الله في عمر الكاتب كي يتحفه بالمزيد و سينقش اسمه على جدار الذاكرة بدل أن يصبّ عليه اللعنات ويشعر بالغثيان .
هذه المنطقة الوسطى هي المطلوبة اليوم لتجمّع الأدباء و النقاد والقراء في سوق عكاظ عصريّ من أجل نهوض حصان الثقافة من كبْوته، ومن أجل سدّ الذرائع التي يحتجّ بها سدنة هذا السوق الأدبي إذ يُلقي النقاد اللوم على المبدعين و يلقي المبدعون اللوم على المتلقّين و يلقي المتلقون اللوم على النقاد و الأدباء معا .
وإذا كان التوسّط بين المباشرة و الغموض مطلوبا في النصوص النقدية فهو في النصوص الإبداعية أكثر إلحاحًا لإنها تتوجّه مباشرة إلى الشريحة الأكبر من القرّاء.
حينذاك نستطيع أن نعزو أسباب التقهقر أو المراوحة الثقافية و الأدبية و الفكرية العربية إلى أسباب أخرى ( سياسية – اجتماعية – اقتصادية – دينية ) لا علاقة لها بالناقد و لا بالمبدع ولا بالمتلقّي.
و عندها ، عندها فقط ، يفرح المثقفون بجمالية المشهد و يشمّرون عن سواعد الجدّ من أجل مناقشة تلك الأسباب الأخرى وصولا إلى المعالجة و تصويب المسيرة .و ساعتئذٍ ينطلق قطار التجديد و التحديث من محطّتنا العربية إلى العالم ، و لا نجلس متثائبين في انتظار عودته إلينا مشحونا بتجارب الشعوب و اكتشافاتهم و مقررات مدارسهم الأدبية و الفكرية و الثقافية التي تنبع من بيئاتهم و تراثهم و عاداتهم و تقاليدهم وإلا صحّ فينا التوصيف:
أمّة مستهلكة(بفتح اللام وكسرها على حدّ سواء).