خريدة شعرية تزاحمت فيها المشاعر بوجدانية سامية أطرتها تفاصيل الارتباط الحسّي بين معطيات المنطوق والمدرك والمنشود ، وتوق الشاعر للارتقاء بالارتباط موضوع القصيدة لحالة من التسامي باتجاه علاقة تشبه الحلم الساكن روحه، ومناجاة عاطفية وظفت اللغة والمشاعر بالتوازي مع ملكات الشاعر الشعرية ومهاراته التعبيرية في البوح الواعي بحواراته الداخلية أو صراع دخيلته مع ما يجد من الحبيبة التي يظهرها الحرف كأنما تدرج مبتعدة
حَدِيثُكِ فِي المَسَاءِ عِلَاجُ رُوحِي=وَبَسْمَلَةُ السَّمَاءِ عَلَى جُرُوحِي
استهلال بديع بسلاسة جرسية تناغم فيها إيقاع الكلم بين شطري البيت بحروفه المنتقاة
وتصريع مذهل امتد فيه التوازي الحرفي لما وراء الروي والقافية
وَهَمْسَتُكِ النَّدِيمُ لَلَيْلِ وَجْدِي=وَبَسْمَتُكِ النَّسِيمُ عَلَى سُفُوحِي
موسيقى الولوج في كل من شطري البيت كانت انسلال نغمة في خطوط لوحة ساحرة تحكي انصهارا شعوريا واطمئنانا لحب عميق
وَكُنْتِ إِذَا ذَبَحْتُ وَتِينَ صَبْرِي=ضِمَادَ البُرْءِ لِلْأَمَلِ الذَّبِيحِ
بيت بحكاية وصور تمثيلية ذات دوال حسّية وسلوكية شارحة
وَإِنِّي كُلَّمَا أَكْمَهْتُ عَزْمِي=ذَرَأْتِ النُّورَ فِي مُقَلِ الطُّمُوحِ
إكماه وذرأ نور .. وعزم أكمه ومقلة طموح أنيرت
يا لها من تراكيب مبتكرة باستعارات متعددة في مقابلة حققت الإدهاش في الصورة ودلالاتها
وَكَيْفَ مَتَى أَرَاكِ أَزِيدُ شَوْقًا=وَأَظْمَأُ كُلَّمَا رَوَّيْتِ رُوحِي
وفي اقتران الحسّ بضده بهذا التأكيد على عمقه براعة تعبيرية أحسن الشاعر ندف حباتها على تربة القول
فالشوق يزيد بالرؤية والظمأ يشتدّ بالارتواء والقلب بينهما نداء لا ينقطع
أَنَا المَلِكُ السَّعِيدُ أَقَمْتُ عَرْشِي=عَلَى رَهَفٍ مِن المَلَكِ الصَّبُوحِ
أُزَرْكِشُ شُرْفَةَ الجَوزَاءِ فَخْرًا=وَأَنْقُشُ طُهْرَ طَيْفِكِ فِي صُرُوحِي
جمع بين الفخر والغزل في كلّ من البيتين وظفت له الصور الفنية واللغة العالية ودهشة تحميل الجملة الشعرية
أُبَادِرُ بِالرَّشَادِ عَلَى وِدَادٍ=فَيَصْرِفُنِي الفَسَادُ عَلَى فَحِيحِ
جميل تماوج الجرس بدلّ الدال في بيت يختمه الشاعر بلفظة فحيح كأنما يقود المتلقي لعقد مقارنة بين وجهي مشهد يحكيه إيقاع الحرف
أَدُسُّ يَدَ الْحَنِينِ بِجَيْبِ أَمْسِي=فَأَلْمِسُ بِالأَنِينِ أَسَى نُزُوحِي
وتحمل سنون السين حدة سيف يردّ عن الولوج في جمال الصورة إلى استشعار وقع نصلها(الصورة) على روح البوح ليعيشها المتلقي بكل عمقها
فَفِيمَ أَرَى ابْتِسَامَكِ فِي وُجُومٍ=يُتَرْجِمُ عُجْمَةَ الْأَلَمِ الفَصِيحِ
وينتقل البوح بسلاسة هنا للحديث عن الحبيبة التي يلمس الشاعر لديها كدرا تواريه ابتسامة لا تداريه
فيعاتب استقبالها هواه بما لا يجد فيه حقا
وَفِيمَ وَلِلْهَوَى العُذْرِيِّ مَتْنٌ=يُقَاسُ الصَّرْفُ عِنْدَكِ بِالشُّرُوحِ
قبل أن يمطرها بدفقة من التبتل في صور فنّيّة نسجت حروفها بدقّة واحترافية رشيقة حملتها لغة واثقة وفنون بلاغية عالية على أجنحة أبيات تحكي ذاتا متعلقة أو ملتصقة دون الانصهار رغم "أنت أنا"
وَأَنْتِ أَنَا فَلَولا مُسْتَقَرٌّ=عَلَى الخُطُوَاتِ فِي الدَّرْبِ الصَّحِيحِ
أَلَيس عَلَى رُؤَى عَيْنَيْكِ أَغْفُو=وَمِنْ شَفَتَيْكِ بَسْمِي أَوْ كُلُوحِي
وَفِي عَطْفَيكِ أَنْسَى كُلَّ هَمٍّ=وَأَحْضُنُ بَهْجَةَ الكَوْنِ الفَسِيحِ
أُحِبُّكِ بِابْتِهَالِ القَلْبِ صَمْتًا=فَلَيْسَ الحُبُّ بِالغَزَلِ الصَّرِيحِ
وَلَيْسَ سِوَاكِ فِي أَعْمَاقِ ذَاتِي=يُجَلِّي الوَحْيَ فِي آفَاقِ لُوحِي
وَلَمْ أَرَ فِي الْوَرَى إِلَّاكِ أُنْثَى=كَأَنَّكِ مِنْ نَجَا مِنْ بَعْدِ نُوحِ
ومن طرف غير خفي يلوم تطلّبا مستبدا في الحبّ
وَمَا يَدْنُو الْوِدَادُ لِمُسْتَبِدٍّ=وَلَا يَرْنُو الْفُؤَادُ لِمُسْتَبِيحِ
ويدعو لعودة لباحة حلم جميل تقدم وصفه فيما سبق من القول
فَعُودِي بِالرِّضَا يَا بِنْتَ قَلْبِي=وَأَحْيِي خُطْوَةَ الْحُلُمِ الكَسِيحِ
أَلِحِّي بِالْغِرَامِ عَلَى شَغَافِي=فَلَيْسَ أَلَذُّ مِنْ شَغَفٍ لَحُوحِ
لهذا البيت أن يحفظه العشاق ويتبادلوه
فما أرقه حسّا وما أبدعه بناء كأنه رواية بحالها
وَمُدِّي الكَفَّ إِنَّ الطَّرَفَ يُدْمِي=عَلَى لَهَفٍ وَإِنَّ الطَّيْفَ يُوحِي
كف وطرف ولهف وطيف وموسيقى ألقة في سيمفونيّة عزفت ببراعة لتسلب الذائقة صوتا
وبنداء تجلى باحتدام شعوري انتقل بهاؤه لجملة النداء الشعرية يختم الشاعر بديعته لتتردد حروفها في ذاكرة وذائقة المتلقي نغما شجيا مستعذبا
تَعَالَي فَالْمَوَاسِمُ ذَابِلَاتٍ=تُنَاجِي غَيْثَ جَوْهَرِكِ السَّمِيحِ
تَعَالَي قَبْلَ أَنْ نَئِدَ الثُّرَيَّا=وَنَرْوِي بِالدُّمُوعِ ثَرَى الضَّرِيحِ
الديباجة الملكية والسبك المتقن والتمكن البلاغي المهيب الذي يميز حرف العمري أوقع القارئ في مصيدة الاستعادة عند كل بيت لكيلا يسلبه تأمل جمال الإبداع الأدبي تذوق جلال الألق الشعوري في نص يستحق العودة لحرمه مرارا استزادة من شهده
مدرسة شعرية جديدة في كل نص جديد يا أمير الشعر
دام عطاؤك ولا حرمك البهاء
تحاياي