جاء ضوء الصباح يعلن موت الظلام، والشمس تقتل وهج النجوم، عدت إلى مدينتي، شوارعها جميلة لكنها مخيفة، ليلا يرتع الداء فيها. هي مدينة بلا قلب. لا أثق في جدرانها، في دروبها، في ثقوبها.. كنت أخطو
بدون هدف ، تحدوني رغبة في ترصد حماقات الخلائق البشرية. الناس يأكلون وهم يمشون، يتوقفون، يصعدون الحافلة وهم يتزاحمون، يتبادلون التحية، يجلسون في المقاهي، يتابعون أجساد النساء.
وقفت أمام كتابات متفرقة على جدار عمارة تثــقب السماء. " الحب قاتل "،" "ياولاد إيــــه ؟! "، " ما بق رجال غير العيلات " كفى من الرشوة " إياكم وبنات الفايسبوك ". رجل يمر بقربي، توقف، حدق كثيرا في تلك الكتابات الحائطية، سمعته يقول: خرابيش بدون طعم، قولوا ما شئتم، أبناء الصفيح !؟ على التو توقفت امرأة بدينة، التفتت يمينا ويسارا، تأكدت أن المكان خال من البشر. بصعوبة تلتقط الكلمات، تتهجى بصوت عال،
ابتسمت وتابعت سيرها وهي تقول: تتطاول أقلامهم ليلا على الحيطان، ويقبضون ألسنتهم بين أشداقهم في النهار.
ثوان مرت، تلميذ صغير يحمل محفظة ممتلئة بالدفاتر والكتب، حدق كثيرا في تلك الخربشات، بسرعة أزاح محفظته عن ظهره وانحنى يبحث في داخلها، أخرج قلم الرصاص، هم أن يضيف كلاما بعدما اختار مساحة بيضاء، لكن.. وجد قلمه يحتاج إلى مبراة. تأمله بحنق شديد، طوح به في الهواء وانصرف غاضبا..
منزل فاخر تراكمت عليه الأزمان، يغتسل بأشعة شمس باردة ، مكتوب على جداره الخارجي" فيلا للبيع ". أطفال دون سن المراهقة اكتسحوا المكان، خفق قلبي وازدادت نبضاته، اختبأت وراء شجيرة متفرعة الأغصان، أرقب، أنتظر.. بقارورة صباغة يكتبون على جداره الخارجي، بسرعة كتبوا : هنا ترمى الأزبال ، من رمى كيسا من النفايات يأخذ درهما، من تبول هنا يأخذ درهمين. طوحوا بالقارورة بعيدا، وأطلقوا سيقانهم للريح.
لا أدري كيف انبعث رجل في المكان، بسرعة سل قلما وورقة من جيب سترته بعدما وضع محفظته المتآكلة الجوانب بين رجليه، شرع يكتب ويكتب. اقتربت منه على مهل، تطاولت بعنقي لأرى ما يدون، كان يكتب بقلم حبر باهت وبخط رديء.. أحس بأنفاسي تضايقه، جفل منى، غرز عيناه في وجهي، تجمعت تجاعيد كخيوط مخيفة على جبينه، طوى الورقة وانصرف وهو يقصفني بنظرات حادة .
في نهاية الشارع ، سمعت لعلعة تخرق الفضاء، ينتشر صداها عبر الحارة. جريت أتلمس مصدر الصوت. رجل يصرخ، يولول، يتعرض للضرب بالتناوب، يعترض بيديه الضربات، يغرس رأسه بين ركبتيه وهو يبكي.
نظر إلي من تحت عينيه، بادرني بالسؤال :
ــ من أنا ؟
ــ لا أدري
ــ أنت هو أنا
وزعت نظراتي بين الناس، ابتسموا، حدقوا في وجهي، مرروا أعينهم على كل جسمي. أحسست أن لغة طائشة تدور في عقولهم. تأهبت لجمع ملابسي عند صدري، لكن الضربات كانت أسرع مني. انهالت على رأسي بانتظام، نهض الرجل وقال :
ــ اقبضوا عليه ، إنه هو؟