... قبل أن تدخل القرية، اعترضها أهلها في سفح الهضبة، نهر عظيم يسابق الزمن في مجراه، على ضفته اليسرى تجمعوا، أحاطوا بها.
اشتد الجدل بينهم حول عودتها من المدينة، همهموا، نمنموا خطتهم، كل واحد بلع رضابا لزجا انحصر في حلقه. قالوا لها بلسان واحد: اختاري بين العودة إلى هناك أو الموت.
رماها أبوها بنظرة خرقت قلبها،انتظرت منه أن يقول كلمته، لكن الصمت سقط من جفنيه. اهتز جسمها، أحست أن العقول سكنها الجنون، وأن حياتها سوف تمزقها أيادي الجماعة. شخصت بعينيها إلى السماء، بأنفاسها الحارقة تواصلت مع الغمام.
بقلبها راسلت من هو أعلى من الخلق، بل أعلى من كل شيء في الوجود. نبضات قلبها اختلت، قد تموت على مهل في الداخل ولا أحد يحس بها.
تشابكوا، تلاوموا، استلوا من نفوسهم كلمات نابية، ارتفعت أصواتهم فسقطوا في نزاع عبثي.
استغلت نجاة الفرصة، وفي غضب حاد، حملت حقيبتها ثم توجهت نحو أعلى الهضبة. حركت شفتيها، كلمت نفسها كلاما خفيفا وقالت: ما كان علي أن أعود، لكن ... اشتقت إليك أبي، فقدت أمي باكرا،
فكانت لوحة طفولتي فارغة، ما ذنبي إن اخترت من أحبه هناك، لي حياة، ملكني الله إياها، بأي حق تستولون عليها؟
على حين غرة، حاصر الجماعة إعصار مفاجئ، وجاء مطر غزير يقتلع الحجر، ورياح هوجاء تهز الأجسام. تدفعهم إلى الخلف، صدورهم تسبق ظهورهم. يسقطون على أقفائهم، لا فرصة لهم للهرب.
من جرفه الماء يسقط في النهر. ومن حاول أن يصعد إلى أعلى الهضبة ينزلق، يتمرغ، يقف ثم يسقط.
في أعلى الهضبة ، من نافذة دار إسمنتية مهجورة ، كانت تراقبهم وهو يصارعون الماء الثجاج، تظهر أجسامهم وتختفي، يلوحون بأيديهم، يحاولون أن يتشبثوا بأغصان الدفلى، أن يتمسكوا بالأعشاب،
لكنها تنسل بسهولة فتبقى في قبضتهم.
توقفت الأمطار، وبدأت الأرض تبلع ماءها على مهل. رق قلبها لحالهم، تدفقت دموع دافئة على خديها، خبأت حقيبتها تحت التراب، وأسرعت تنقد من بقي على قيد الحياة. بحثت عن أبيها فلم تجده.