لا تزال شخصية الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أبرز الشخصيات في التاريخ الإنساني على مر العصور ، وربما لا تكفي مجلدات للحديث عن هذه الشخصية وتحليل عناصر التفرد والتميز والقوة فيها ، وأكتفي بإشارات مجملة لها لألقي الضوء على ما أراه أهمها وأبرزها .
لقد كان لسيدنا الصحابي الجليل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قبل الإسلام مكانة مرموقة وهيبة كبيرة في المجتمع المكي وهذا يتبين جليا في طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه حتى دعا ربه الدعاء المشهور : "اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك عمر بن الخطاب وعمرو بن هشام" ، فقد كان يرى صلى الله عليه وسلم أن إسلام عمر سيكون من أسباب عز الإسلام ، وهذا ما تحقق فعلا فكان إسلامه رضي الله عنه نقطة تحول في تاريخ الدعوة المكية ومنعطفا هاما في مسارها ، أصبح المسلمون القلائل بعدها في قوة ومنعة تحسب لها قريش ألف حساب ، فانتقلوا من التخفي إلى التحدي ، وكان لقب "الفاروق" تتويجا له وسمة لازمت اسمه إلى أن يرث الله الأرض وما عليها .
أما مكانته رضي الله عنه في الإسلام فهي من أرفعها ، فهو المرافق دائما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، هو الرجل الثاني بين الصحابة ومن أحزمهم ، ويمكن أن نقول أنه كان الوزير الثاني ، فما كان يبرم أمر تقريبا إلا ولعمر فيه رأي أو قول أو مشورة أو مشاركة ، حتى كان له موافقات مشهورة مع القرآن الكريم ليس هذا المقال المختصر محل ذكرها ، وكان رضي الله عنه من العشرة الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة بالإسم ، وانتقل صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض .
كان صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جمع إلى المصاهرة النسب بزواجه من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، لحرصه الشديد على مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عدل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو مضرب المثل على مر العصور وهو باب كبير يندرج تحته الكثير من الأمثلة والمواقف والأقوال التي تشهد بذلك .
أما خلافته وتطور نظام الدولة فيها ومنهجه في استعمال الولاة وتولية القادة ومحاسبتهم ، فهي مفاخر تكتب بماء الذهب ، حتى عد بعض المؤرخين أن عمر بن الخطاب هو الباني الحقيقي "للدولة الإسلامية" ، هذا طبعا من الناحية السياسية والعسكرية والتنظيمية وغير ذلك .
أما في ورعه وزهده ومحاسبته لنفسه ورحمته بالرعية وإيثارهم فحدث ولا حرج ، ولعل قصة بائعة اللبن ، وقصة الأم التي تفطم وليدها ، وقصة دخوله بيت المقدس ، قصص لا يجهلها صغير ولا كبير من المسلمين
ذكرت ما ذكرت من صفات ومميزات شخصية الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سبيل الإجمال كما قدمت لأصل إلى مبتغاي من هذا المقال وهو :
أهم صفات عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،
فإن أهم هذه الصفات - فيما أراه - والتي هي أكثر ما جعلت منه "عمر بن الخطاب" ؛ فإنها وقوفه عند الحق ورجوعه إليه رضي الله عنه ، فإذا ذكر به عاد إليه وإذا روجع في خطأ رجع عنه وإذا قيل له : اتق الله وضع خده على الأرض خشية من ربه سبحانه وتعالى .
وأسوق هنا ثلاث أمثلة تبين هذه الصفة في سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه و تظهر سرعة استجابته وعدم تردده عندما يتعلق الأمر بالحق وتقوى الله تعالى :
1- عندما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، جن جنون عمر وأشهر سيفه يهدد ويتوعد من يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات ، فما إن قرأ عليه أبوبكر الصديق رضي الله عنه قوله تعالى"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتهم على أعقابكم" ، فهوى رضي الله عنه إلى الأرض وما عادت تحمله رجلاه وعلم أنه الحق.
2- عندما عزم الصديق رضي الله عنه على محاربة المرتدين خالفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأشار عليه أن يتألفهم فقال له قولته المشهورة : يا عمر أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام ، فما لبث عمر رضي الله عنه أن علم أن هذا هو الحق ونزل عنده وكان نعم الوزير لصاحبه
3- أشهر حادثة وأكثرها ذكرا ، عندما كان على المنبر يتكلم في مهور النساء وتحديدها فاعترضت عليه امرأة وقالت ليس لك هذا وقد قال الله تعالى " وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا" ، فقال من فوره رضي الله عنه : أصابت امرأة وأخطأ عمر .
لله درك ما أعظمك يا خليفة رسول الله ، لله درك ما أعدلك ، لله درك ما أتقاك وأورعك وأنت تقف عند الحق وتذعن له خاشعا مقرا شاكرا لمن ذكرك وراجعك فيه ، فكنت مثالا لهم في نفسك ومعينا لهم عليها وناصحا لها معهم ، فإذا حاسبتهم علموا أنك حاسبت نفسك قبلهم وإذا منعتهم رأوا أنك منعت نفسك من أكثر مما منعتهم وإذا كلفتهم لم يشكوا أنك كلفت نفسك فوق ما كلفتهم .
نعم هكذا تجلى لقب الفاروق في هذه الشخصية الفذة بدءا بدخوله الإسلام والجهر به بين ظهراني قريش ، إلى أن استشهد رضي الله عنه وهو يسأل عن قاتله أمسلم هو ؟ خشية أن يكون له في ذمته شيء ، ومرورا بصفحات مشرقة من العدل والزهد والورع والرحمة بالرعية وتقوى الله تعالى والوقوف على الحق أيا كان مصدره .
لم تكن هذه الصفات والمزايا مجرد شعارات مرفوعة وادعاءات باطلة وسلوك مظهري للرياء أو التباهي أو استجلاب رضى الرعية ، وإنما كانت تطبيقا صارما ونموذجا حيا شهد به أصحابه ومعاصريه وكانوا يشفقون عليه من نفسه.
أيها القراء الكرام ، قال الله تعالى "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" ، وعلى المسلم أن يتبع نهج نبيه الكريم ويتأسى به صلى الله عليه وسلم في كل أمره ، ولكن ألم يكن أصحابه رضي الله عنهم بإيمانهم القوي واتباعهم الشديد له على اختلاف صفاتهم ومواهبهم ومكاناتهم ، ألم يكونوا بمجموعهم تطبيقا عمليا واقعيا لهذا التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى لا يقول قائل إن أخلاق النبوة وما أمر الله به وسنة نبيه إنما هي فوق مستوى البشر ، فجاء اتباع الصحابة رضوان الله عليهم تأكيدا عمليا ونموذجا غير معصوم لإمكانية تحقيق هذا التأسي وتكراره ، وإن كان يصعب جدا على من بعدهم أن يكونوا مثلهم .
إن صفة الوقوف عند الحق التي اتصف بها الفاروق وحفر اسمه في سجل تاريخها البشري يجب أن تكون نموذجا لنا لما فيها من نصر الحق على الباطل وإعلائه عليه ، ولما يتحقق بها من المصالح ويدرأ بها من المفاسد ، وليس ما نرى حولنا في هذا الزمن من فساد السياسيين والقادة وأصحاب المناصب والمدراء والأدنى والأدنى حتى الأب في بيته والمعلم في مدرسته ، إلا بسبب الكبر والعزة بالإثم التي تأخذهم وربما تعدى الأمر ذلك إلى التنكيل بمن يعارضهم ، حتى انقسمت الأمة بين مستبد وخائف وظالم ومظلوم .
أسأل الله تعالى لي ولجميع القراء أن نتحقق بنهج الإسلام والقرآن وسنة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأخلاق أصحابه ومنهم وفي أهل المقدمة منهم ..... أمير المؤمنين ، الخليفة الراشد ، الفاروق ،عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه