اتكأت على جذع شجرة يقاوم الاندثار ويصارع قساوة الطبيعة التي أحدثت فيه شروخا عظيمة، تأملته بعينين ذابلتين مات الفرح فوق أهدابهما المكسوة بالغبار، غاصت في جوف هذا الجذع الذي أضحى ملاذا للدبابير وبعض الزواحف.
وضعت يدها فوق الجذع الجالس هنالك رغم أنف الطقس القاتل... لاحظت أخاديد الزمن وتضاريسه على يديها الخشنتين، وسافرت في هذا الموت البطيء.... أصابعها اغتالتها الرطوبة وحولتها إلى أشكال مقعرة برؤوس تخفي معاناة إنسانة طاردت حلما قادها إلى فيافي المجهول ووحشيته، ورماها جثة على قارعة وطن مزيف بلا زاد ولا دليل...
عقرها الجذع وكأنه يعلن عن تعاطفه معها وينبهها إلى ذلك التشابه الذي خلق بينهما جاذبية خفيفة ترجمتها وقفتهما المنكسرة فوق تلك الهضبة التي تواجه محن الطبيعة لتضمن بقاءها ووقوفها شامخة هنالك مثل شوكة في أعين الحساد والعاذلين.....
اندلق دمها القاني فوق الجذع المتهالك، وبدأت ذاكرتها المتقدة تفتح صفحات التاريخ القريب البعيد، حيث شقائق النعمان تلامس وجنتيها الغضتين وهي ممددة تحت ظلال الشجرة الوارفة التي كانت تحجبها عن أعين المارين بأفنانها المتعانقة في اتساق وجمال...
كم انساقت مع الفراشات المزركشة تلهو خلفها في كل اتجاه....: آه لو يعود الزمن قليلا إلى الوراء.....
ارتسمت ابتسامة شاحبة على شفتيها اللتين ابتلعت وطأة الزمن بريقهما وطراوتهما، وهي تتذكر كيف كانت تلوذ بهذه الشجرة الكبيرة لتتفيأ بظلالها، أين هي تلك الأغصان المثمرة الدافئة لتحتضنها اليوم بكل حب ودفء كما كانت تفعل بالأمس...
تساءلت عمن أخرس صوت العصافير التي كانت تصدح بأعذب الألحان وهي تنتقل من فنن إلى آخر..
ومن اغتال تلك الفتاة الحالمة التي كانت تقطف الثمار وترمي بها إلى المارة بشقاوة طفولية بريئة... اقتلعوها من تربتها وحملوها إلى المدينة غريبة عن الأهل والأتراب... غمرتها عبرات اليأس والوهن... ظلت تنظر إلى رجليها الحافيتين اللتين خانتاها بسبب جروح عميقة تشبه تلك الجراح العاصفة بفروع هذه الشجرة التي طالما طافت حولها الفتيات يزينها بشرائط الأمنيات الوردية ...
مشطت المكان بعينيها الدامعتين تبحث عن أي أثر أو رسم يدل على حياة ظلت محفوظة في الذاكرة العائدة هي كل ما تبقى لديها اليوم بعدما شوه غدر المدينة ملامحها البريئة... ولفظها بلا رحمة إلى العراء....
زفرت بحرقة لما لاحظت اختفاء آثار الأقدام التي طوتها المسافات ومحاها النسيان ...... تشبثت بذلك الجذع ... وشخصت إلى السماء ....تعيد النبض لهذا المكان المهجور...
زمجرت الرعود ولمع وميضها لافحا ذلك الجسد الضعيف .. تآخت مع الجذع واتحدا... سمادا لهذه البقعة الطيبة لعلها تثمر بعد سنوات العقم العجاف.....