الطلقة الثانية
أعود للبيت ..
تقابلني أمي .. تفتح لي جعبة أذنيها ؛ لأملأها بما سمعت - رأيت بيومي الأول .
تبتسم وهي تسمع ما شاهدتُ - أنام ، أهيم بعبق الطفولة الذي شممته هناك مع الزائر الجديد ، الذى قابلته في أول هبوط له بممر الدنيا ..
في الصباح ..
أدخل لأرتدي المعطف الأبيض ، الذي عشت عمري كله أحلم بإرتدائه ، كم كنتُ أجمع نسيجه خيطاً - خيطاً ، كل سنة دراسية تمنحني جزءً منه ، حتى وصلت للثانوية العامة ، تلك الطامة الكبرى ، ليست عنق الزجاجة ، بل عنق ثعبان ، ابتلع كل طموحاتي ..
ألقى في أحد المعاهد ، كما قالت أمى ( شهادة والسلام ) ستتزوجين ولن تحتاجيها ، كأن العمر - قطار مجنون - والأيام – محطات يتيمة - لا يقف فيها قطاري بالكاد ؛ أعرف ملامحها وأذكرها ..
أستلم ورقة ، أعلقها على جدران بطالتي ، أنتظر أن تتغير فصولي ، أتنقل من عمل إلى عمل ، راتب بالكاد يفي بعض مطالبي ، أعطي أمي بعضه تنفقه على دنيانا البخيلة ..
كنتُ أعمل بمحل لتأجير أفلام الفيديو ، أجلس طوال اليوم ، يدخل زبون يأخذ ما يريد ، يعقبه زبون آخر ، وهكذا ..
بين الوقت والآخر ، أقرأ عناوين الأفلام ، أحلم وأنا أرى الممثلات الجميلات ، أحلق عالياً لأسقط على صوت أحدهم يناديني ..
- مرحبا ..
- أريد أحدث فيلماً رومانسياً ، أو فيلم رعب ، أو فيلم ..
- فيلم عن ماذا ..؟
- أفلام ، ألا تفهمين ..؟ فيلم من نوع آخر ، تعملين هنا منذ مدة ..؟
- كم راتبكِ ..؟
اندهشتُ من سؤاله ، خجلتُ أن أخبره ، فصَمتْ ، ضحك ، يذبح صمتي بقهقهاته القاسية ، أخبرني أنه يمتلك شركة استيراد وتصدير ، يرغب في أن أعمل لديه ، سيجزل لي العطاء ..
انتهى اليوم .. أحمل فرحتي وهي سعيدة ، أهرع إلى البيت لألقيها في حِجْر أمي ، تتلقفها تنفض من حِجرها حزنها ، وهمها من عبء الحياة ..
- صباح الخير دكتور حسين ..
- صباح الخير ..أنت سميه ..؟ لم أقابلكِ أمس ، كان أول يوم لكِ بالمستشفى ، هل أخبروكِ عن نوع العمل هنا ..؟
- ممرضة ..
يضحك وهو يفتح فاهه ، أرعبني موت بعض أعضائه ، أتشاح الباقي منهم بالسواد ، قال : لا .. التي تعمل عندي بالمستشفى ، تعمل كل شيء ، علامات الإندهاش تكسو وجهي كجلده ..!! كل شيء ، ممرضة ، إدارية ، عاملة ، غسالة ، طباخة ، تنظف آبار ، تُصلح صنابير ، كل شيء - كل شيء ، إذهبي الآن للدور الرابع ، هناك يعملن البنات ساعديهن ..
قلت في نفسي لعله يمزح ..
صعدتُ للدور الرابع ، هذه أول مرة أبرح الدور الأرضي ، مررت بالأدوار .. لا صوت – لا ضجيج - سوى موسيقى ناعمة هادئة تنساب عبر سماعات بالأركان ..
سرت كفراشة أحلق على صوت الموسيقى ..
يسقطني من تحليقي رائحة غريبة بالدور الثالث ، سددت أنفي لكن يد الرائحة كانت تجذب يدي لأشمها عنوة ..!!
أسرعتُ في الصعود ، حتى لا تلحق بي تلك الرائحة ، تستعمر حواسي ..
الدور الرابع .. تقيأ محتويات غرفه ، ضوضاء ، أسرة ، دواليب ، وسائد ، مراتب ، بقايا أدوات طبية هنا وهناك ، أسمع ضحكات تناديني لأدخل صوب الصوت..
- صباح الخير ..
- أنتِ الممرضة الجديدة ..؟
- نعم ..
ضحكن ، يغمزن لبعضهن ، لم أعرهن اهتماماً ، حتى يدركن أن ما يفعلنه لا يؤثر فيَّ ..
يخلعن الثياب البيضاء ، يرتدين ثياباً ملوثة ملونة ،كأنهن عمال طلاء ..
- ماذا تفعلن ..؟
- رددن ألم يخبركِ دكتور حسين عن طبيعة العمل هنا ..؟
- وما الذي يجبركن على تحمل هذا ..؟
- نفس الذي أتى بكِ إلينا ..؟ دعكِ مما تقولين ، تعالي لتساعدينا ..
خَلعتْ الحاجة الغلاف الأبيض ، الذي عشتُ أحلم به ، قذفته بعيداً ، بدأت أساعدهن في لصق ورق الحائط ، تذكرت صورة شهادتي ألصقت فوقها الورق ، زدت صمغ حزني وكآبتي ..
ضاعت دهشتي ؛ هن يلصقن ورق ابتاسماتهن فوق حوائط وجهى ..!!
عدتُ لمنزلي ، أخفي عن أمي صديقاتى اللاتي أتين معي للبيت ، رغماً عني ..
استطعتُ ببعض المهارة ، ألا أجعل أمي ترَهُنَّ ، نهضتُ في الصباح ، زال عني همهما أستعدت بعض قوتي..
ذهبتُ حيث الشقاء ، لم نكمل عملنا أمس ، استبدل ثيابي ، قلت :..
الحمد لله .. فما رأيت هنا أفضل مما رأيته في نصف ساعة ، كانت ستستنفد قوة عمري كله ..
- ها هو العنوان لا تنسي ، شركة رشيد للإستيراد و التصدير ، سأنتظرك يوم الخميس مساءاً ، لا تتأخري ..
أحمل العنوان ..كأنه قارب نجاةٍ نراه أنا وعائلتي من بعيد ، ونحن يضربنا موج الحاجة - العوز ، ننادي على رُبانه أن ينتشلنا من الغرق ، أخيراً سمعنا ، أتى لينقذنا..
أحتضن العنوان ، أرجو الأسبوع أن يُسرع بإرسال أحد أبنائه الذي أنتظره بشوق ..
يأتي هادئاً كليلة صيف ، برغم شتاء انتظاري القارس ..
أرتدي أجمل ما عندي ، أذهب للموعد المنتظر ..
- مرحباً .. سميه ..
- أراكِ تأخرتِ ..
- كلا جئت منذ برهة ، كنتُ أبدل ثيابي ، لا ترتدي البالطو فالدور الرابع ينتظرنا ، كم أكره العمل بهذه المستشفى لكن ( المحتاجة غناقة )..
نصعد لنكمل ورق الحائط ، وبعدما انتهينا منه ، هممت بالإنصراف قالت إحداهن : ..
- إلى أين ..؟
- ألم ننتهي ..؟
ضَحكتْ بصراخ ، نعم ، لكننا لم ننتهي من تنظيف الغرفة ، سنمسح الأرضيات ، غداً ندهن النوافذ بالطلاء ، تصرخ أعضائى من التعب ، تنهار أمامي على أحد الكراسي ، لم أستطع إيقاظها ، الجميع يضحك ..
أجمع أعضائي المتفرقة داخل كيس جسدي ، أعود للبيت منهكة الكرامة ، مبعثرة الكبرياء ، تخيلت أن عملي كممرضة سيفي ببعض أحلامي القتيلة ..
تراني أمي ، تسرع إليَّ لتحمل جسدي الذي سيتفكك ، إلي قطع متناثرة ، تضعني على فراشي ، وهى تصرخ ..
- ما بكِ ..؟
- لاشيء .. العمل ..
- أيُ عمل ..؟ ما الذي تفعلينه هناك ليفعل بكِ هذا ..؟
تُصِرُ على أني ، لن أذهب إلى العمل مرة أخرى ، أناشدها ، إنى سعيدة ..
لكنها ترى حالتي ترفض ، أصر على العمل ، توافق أن أعود للمستشفى ..
يموت قلبي الأخضر ، وهو يُغلف بورق حائط غامض – متوحش ، يمنعه من أن يتنفس ، تتغير ملامح الدنيا بعيني ، لتكون مرعبة جبارة ، لا كما رأيتها بعين شبابي ، كأننا خُلقنا لنشقى ، وخُلق غيرنا ليستعذب شقائنا .....