كتاب " السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي " لصاحبه العلّامة البوطي ـ رحمه الله ــ مِنْ أفضلِ الكتب في عصرنا الحديث التي ناقشتْ الفكر السلفي ، وإنْ كان العلّامة البوطي لمْ يستهدفْ آراءَهم كلّها بِقَدْرِ ما أثار التساؤل عنْ حُكم ابتداع إطار جديد وآثاره على الساحة الإسلامية .
وإنّه من الضروري أنْ يقرأ كل مسلم هذا الكتاب ليفهم هذه الظاهرة وحُكْم الانتساب إليها.
ولْيَكُنْ القارئُ مُطمئنا ؛ لأنّ العلّامة البوطي اتبّعَ في هذه المناقشة المنهج العلمي في البحث عن الحقيقة ، فلا يوجد تعصّبٌ ولا ذاتية ولا نزعة سياسية ..إنه المنهج العلمي فقط .
وقدْ كان العلّامة موفّقاً في اختيار العنوان لهذا الكتاب ؛ حيث تضمّن عنوانُه الردّ المجمل الذي يُعطي فكرة عامة عمّا هو مسطور بين دفّتي كتابه الفريد .
بعد قراءة الكتاب سوف يحقّ التساؤل: هل " السلفية " تُمثّلُ فعلاً الحقيقة النبوية المحمدية ؛ فيحسُنُ اعتناقها ؛ أمْ أنها مجرد رأي من الآراء ، قابل للردّ ؟
إنّ السلفَ الصالح لم يتّخذوا من هذه الكلمة بحدّ ذاتها مَظْهَراً لأيّ شخصية متميزة ، بل كان بينهم وبين مَنْ نُسمّيهم " بالخلف " منتهى التفاعل وتبادل الفهم ، والأخذ والعطاء ..
فكلمة " السلف " ما هي إلا ترتيبٌ زماني ، فكل مَنْ سبَقكَ زمَناً أنتَ خلَفُه وهو سلفُك ، فالكلمة تدل على مدة من الزمن .
إذا تبيّنَ هذا ؛ فهل يصحّ أنْ نعمدَ إلى كلمة " السلف " فنصوغَ منها مصطلحا جديدا طارئا على تاريخ الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي ، فنجعله عنواناً نتميّزُ به عن سائر المسلمين ؟ .
يتساءل الشيخ البوطي رحمه الله :
( بوسْعِنا أنْ نتساءلَ على سبيل التنزّل والمسايرة الجدلية :
ها نحنُ نريدُ الانضمام إلى هذه الجماعة التي تُسمّي نفسها " السلفية " ، لكنْ ما هو دستُورها الذي إنِ اتّبعناه أصبحنا مِن أفرادها ؟
الإجابة لا تخرُجُ عن احتمالين اثنين ، كما يقتضي ذلك الحصر المنطقي :
الجواب الأوّل : أن يُقال لنا : أنْ نلتزمَ حَرْفية الأقوال والأعمال والتصرّفات والعادات التي كان السلف الصالح يلتزمونها ويمارسونها دون زيادة أو نقصان .
فيُقال لهم : لكنْ السلف الصالح أنفسهم لم يكونوا ينظرون إلى ما يصدرُ عنهم من أقوال وأفعال وعادات هذه النظرة القُدسية الجامدة التي تقتضيهم أنْ يُسمِّروها بالبقاء والخلود !!
بل كانوا يسيرون مع علل الأحكام ومقاصد الإسلام ، وسُنّة التطوّر في الحياة ، وعوامل التقدّم العلمي ، ومنطق التجاوز المستمر من الصالح إلى الأصلح ، كما سايروا الأعراف المتطوّرة والمختلفة من بلدة إلى أخرى أثناء الفتوحات الإسلامية .
وهذه بعض الأمثلة في عدم الجمود والحرفية في فهم السلف الصالح :
1ـ كان الصحابة في مكة لا يعرفُ جُلُّهُم المخيط من الثياب ، فلمّا استقروا في المدينة ، واحتكوا بأهلها لبسوا الثياب المخيطة والحلل اليمانية .
2 ـ كانتْ بيوتُ مكة لا تعرف الكُنُف ، فلمّا صاروا إلى المدينة اتّخذوها .
3 ـ النبي ص كان لا يتختّم طوال المدّة التي قضاها في مكة ، إلى أنْ هاجرَ إلى المدينة ، وبعد مدة زمنية بدأتْ المراسلات بينه وبين الملوك ، فقيل له : إنّ الملوك لا يقرؤون كتابا إلا مختوما ، فاتّخذ خاتما من فضة .
4 ـ لم يكنْ الصحابة ـ رضوان الله عليهم جميعا ـ يَعْتدُّون بشهادة الصبيان في نزاعاتهم أثناء لعبِهم ، حتى جاء عهد التابعين ، فرأى الفقيه التابعي عبد الرحمن بن أبي ليلى إجازةَ شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراحات وتمزيق الثياب في أماكن اللعب ما لمْ يتفرّقوا ، لأنّ العُدول من الرجال قلّما يحضرون ملاعب الصبيان أو يختلطون بهم .
5 ـ المناقشات والمساجلات العلمية التي اقتحمها بعض الصحابة مثل عبد الله بن عباس وعليّ بن أبي طالب فيما يتعلّق بالقضاء والقدر والجبر والاختيار ، وحتى مناظرة الخوارج ؛ حيث لا تخلو هذه المساجلات من استدلالات منطقية وتأويلات مجازية التي كان أصحاب رسول الله ص يتورّعون من الدخول فيها .
6 ـ جمْع القرآن الكريم في عهْد عثمان بن عفّان .
هذه نماذج قليلة من مظاهر التطوّر المختلفة ، حتى وإنْ كانت بعض الأمثلة في أمورٍ دنيوية ؛ فإنها تصلُحُ دليلا على انعدام الحرفية والجمود من ساحة السلف الصالح .
إذن : تبيّنَ أنّ الجواب هذا ، لا معنى له ، ولا وجود لأيّ تطابقٍ بينه وبين واقع عصْر السلف الصالح ، لأنّ السلف لم يجمدوا عند حَرْفية أقوالهم وأفعالهم وعاداتهم .
الجواب الثاني : أنْ يقال لنا : يكون ذلك بالتعرّف على المنهج العلمي الذي رسَمَتْه السلفية ودوّنتْه لتفسير النصوص واستنباط الأحكام وضبْط أصول النظر والاجتهاد .
فيقالُ لهم : إنّ هذا المنهج لمْ يكنْ له أيّ وجودٍ على صعيد الاصطلاح أو التدوين ، وإنما كانت السليقة العربية في الدراية والفهم هي العمدة الأولى والأخيرة في الانضباط بالأصول والأحكام ، وقد استغرَق هذا نِصْفَ العصر الإسلامي الأوّل ) انتهى بتصرف .
لذلك شهِدَ عصْرُ التابعين معارك فكرية واجتهادية بين أقطاب مدرستي الرأي والحديث ، ولم يكنْ هناك ميزانٌ علمي حاسمٌ للخلاف ، بل مازالت السليقة مهيمنة على الجوّ الاجتهادي .
إلى حدّ هذه النقطة ؛ لم يتبلورْ أيّ منهج واضح المعالم ، أو دستور قيل عنه " السلفية " .
فما بالُ أقوامٍ مِنّا يَطِيرُونَ إلى عصْر الإسلام الأوّل ؛ ويخترعون من بساطته كياناً فكريا متميّزاً بمضامين وشارات جديدة ، عنوانُه " السلفية " ومحتواهُ : احتكارُ الحقيقة المطلقة ؟!
هل هؤلاء أحرَصُ على الحقيقة من الإمام مالك الذي طَلَبَ منه الخليفة أبو جعفر المنصور أنْ يُصنّفَ كتابا فقهيا ليقوم الخليفة بتعميمه على سائر الأمصار الإسلامية ويوحّد الأمة على رأيٍ واحد ، فَرَفَضَ الإمام مالك الفكرة ، وعلّلَ رفْضه : بأنّ الصحابة انتشروا في سائر البلدان ، وقد استقرّ كل بلد على رأي ، فلا يصلحُ فرْضُ الرأي الواحد في مثل هذه الظروف .
إنه لمْ يستقرّ الاصطلاح العلمي ، ولم تتمايز العلوم الشرعية حتى قام بعض الأئمة ؛ وفي مقدّمتهم الإمام الشافعي باستنباط قواعد تفسير النصوص وأصول النظر والاجتهاد ، مُحكّمين اللغة العربية ونظامَ فهمها ؛ متّبعينَ دراية السليقة الصافية مِن عرب الجاهلية وصدْر الإسلام ، وعندما صِيغت هذه القواعد لمْ تُكْتَبْ بِلغة إقصائية احتكارية أحادية ، بل كانت تتّسعُ للإضافة والتصحيح والنقد والتفاعل بحسب التطوّر والنمّو العقلي والسقْف المعرفي .
وحسْبُك أنْ تنظرَ في اختلاف الأئمة في زكاة الفطر : هل يُخرجها المسلم من غالب قوت بلده أم بالقيمة ؟ لتكتشف أنّ معظم العلماء المعاصرين ذهبوا إلى إخراجها بالقيمة ، لأنّ ذلك يحقّق المقصود منها ؛ أيْ : الإغناء عن السؤال ، وهذا المقصد لن يتحقّق لو أُعْطيتْ للفقير قمحاً أو زبيبا ..إلـخ .
والأمثلة كثيرة ..
وفي الأخير نخرج بهذه النتائج :
ــ الاجتهادُ هو حقٌّ لكل من توافرتْ فيه شروطه ، وليس حِكراً على طائفة أو مذهب أو شخص أو نزعة سياسية .. ، ومنَ الأنانية والاستبداد الفكري أنْ يُعْطِيَ أحدٌ لنفسه هذا الحقّ ، ويحجبُه عمّنْ هو مثلُه .
ــ لا أحدَ يملكُ أنْ يَرْمِيَ مجتهدا بالضلال أو المروق أو الابتداع أو الخروج عن خطّة السلف الصالح ؛ فلمْ يتركْ السلف من ورائهم وكلاء أو أوصياء ، ولو أمْكَنَ للسلف أنْ يتركوا لَعصَمُوا أنفسَهم مِن الوقوع في حروب دامية وخلافات حادّة .
ــ الانتسابُ إلى حقبة السلف الصالح لا تُعْطي للمُنتَسِب أيّ قدسية أو أحقيّة لتمثيل الإسلام واحتكار الحقيقة المطلقة ، سوف يبقى هذا الانتساب مجرّد ادّعاء قابلٍ للأخذ والردّ كغيره من الآراء .