وضع خطا آخر على الجدار الكئيب , ليعُدّ ليلة أخرى , ليمضي شهر ويبدأ شهر آخر , ليالي السّجون بلا جدوى , سيّان نومها وسهرها , أحلامها كوابيس أو خيالات مُجترّة من عالم قديم جدا في الذّاكرة , صار ماض بعيد , قبل شهور معدودة فقط كان الوضع مختلفا , وكانت الدّنيا رحبة , مُفتّحة الأبواب .
القصّة بدأت يومها في حصّة الدّرس , لم يكن عشقا ولا طيشا , كان حظّا أسودا فقط , عندما قامت الفتاة تجيب عن سؤال أستاذ اللغة العربيّة فقالت البيت الشّعري الشّهير : من طلب العّلا سهر اللّيالي , تكلّم هو من آخر الصّف مازحا بصوت مُرتفع : بنزع الف ولام التّعريف أستاذ , من طلب عُلا سهر اللّيالي , كانت الحصّة مُملّة , وكان الصّمت قد خيّم في المكان , لذلك انفجر الصّف ضاحكا بأكمله , واحمرّت وجنتاها , بكت وخرجت مسرعة .
في المساء دخل عليهم شخص غريب بلباس أسود وطلبه لمكتب المدير , وجد لجنة كاملة من الرّجال باللباس الرّسمي الأسود في انتظاره , قابله المُدير غاضبا : مالّذي فعلته ؟؟ ثمّ توجّه للسّادة مستسمحا وجبينه يتصبّب عرقا : نطرده حالا ونحرمه من العودة للدّراسة مستقبلا , قال له كبيرهم : لا يكفينا الطّرد , يجب أن يدخل السّجن ويكون عبرة لمن يعتبر .
مضى الأمر سريعا , ثارت الدّنيا , لكنّها كالزّوبعة في الفنجان , تعاطف في البداية زملاءه , فقد كان مجتهدا ومحبوبا , فقيرا ويتيم الأب , أمّه تعمل امرأة نظافة في نفس الثانوية منذ سنوات عديدة , محبوبة ويعرفها كل الناس , تصرف عليه وعلى اخوته الصّغار , هو أملها الوحيد , وهذه سنة القسم النّهائي وعنده شهادة بكالوريا .كتبوا ورقة احتجاج ومرّروها للإمضاء , أمضى فيها جميع تلاميذ الثانوية ثم انتقلت الى الثانويات الأخرى , ثم تعاطف معه الأساتذة وإطارات التّربية والعمّال .
جاءت أمّه تبكي للمدير وتطلب أهل الفتاة لتعتذر منهم وتستسمحهم , قالوا لها يستحيل أن تحلمي بلقائهم , الفتاة أمّها وزيرة التّربية والتّعليم . كانت تخوض معركة شرسة مع الإعلام , اتّهموها بالفشل والفساد , وفضحوا الكثير من أمورها الخاصّة , منها دراسة أبنائها في الخارج , فجاءت بهم جميعا , وأدخلت ابنتها الكبيرة عُلا هذه الثانوية , كانت الإنتخابات قد اقتربت , واقترب معها التعيينات الجديدة للوزراء .
ذهبت الأم الى بيت الوزيرة بعد بحث شاق ومرير , مُحمّلة ببساط – زربيّة – صنعتها بيديها , تريد تقديمها كهديّة . دخلت مع الحُرّاس , وجلست في قاعة الانتظار طويلا , مع الحُرّاس أيضا , حتّى جاءتها السّيدة الوزيرة تمشي بخطى سريعة , ويتطاير من عينيها شرر والشّراسة . لم تسمع الأم المسكينة الاّ كلمات فرنسية سريعة لم تفهم منها شيئا , أسرعت اليها باكية , أمسكت يدها وقبّلتها وقالت : ابني وحيد وهو كل ما لدي , ربّيته جيّدا وأخشى أن يضيع , لم يكن يقصد شيئا , كان يمزح فقط , ولم يكن يعرف الفتاة ولا يعرفكم , والاّ لما تجرّأ على الكلام أصلا . الكلاب تزيد شراسة عندما ترى ضعفك , رفعت رأسها بغرور وقالت بابتسامة غبيّة : ربّيته جيّدا ؟ لو لم يكن مُتربّيا ماذا كان سيفعل أكثر من هذا ؟ , لقد تحرّش بابنتي أمام زملاءها , وأهانها , لن أدع هذا الأمر يمر بسهولة , ابنك يلزمه مركز اعادة تربية .
أدخلوه السجن الإحتياطي , ثم جلسة محاكمة , اكتظّت بوسائل الإعلام والصّحافة . قوّموا للشّاب المسكين محاميا كبيرا , دفع مُستحقّاته الأساتذة واطارات التّربية وبعض الجمعيات الفاعلة وأحزاب المعارضة , وتحوّل الأمر الى قضيّة رأي عام .
المحامي استغلّ القضيّة للتألّق والنجوميّة , خرج عن الموضوع , وحمّلها مالا تحتمل , وصارت القضيّة تُناقش الفساد عموما , وفساد التّربية والتّعليم خاصّة , لم تُكلّل الجهود رغم وفرتها وما صحبها من ضوضاء بأي نتيجة وحكموا عليه بخمس سنوات كاملة , مع طرد من التّعليم وحرمان من العودة اليه أوالى أي مؤسسة رسميّة للتّكوين المهني
عُلا ما علت برفعة , علت بالمال والنّفوذ . واللّيالي لم تكن للسّهر والإجتهاد , كانت للضيّاع ودخول دروب وسكك الإنحراف