مضى عامان على هذا الحال , لا تبرح غرفتها , أمّها الّتي كانت في شجار دائم معها بسبب سلوكاتها الأخيرة , رقّت لحالها , وأذابها همّها , وطول حزنها . لا تفعل أي شيء , سوى النّوم على السّرير , وتنهض لتأكل في أوقات الغذاء والعشاء , حركات آلية روتينيّة , والمشربيّة العتيقة الّتي تطل من غرفتها على شارع حيّهم المزدحم , صارت ثقيلة هي أيضا على قلبها , ضوضاء النّاس لا تُضف سوى الكآبة , والنّور لا يدخل هذا المكان الموحش .
خطبها جارها سعيد عن حب , ولم يتمكّن من الزّواج بها لضيق ذات اليد , تقدّم اليها أحد الشباب الأثرياء , استهزء بها وفسخ خطبته لها قبل يومين من موعد زفافهما , بعد أن صحبها في كل مكان , وتكلّم عنهما العام والخاص , وأدخلها البيوت المغلقة , والحمد لله أنّ ربّك ستر , بعدها سلكت طرق الإنحراف , تسكّع فقط , وخروج مع من هبّ ودب , وتصادم لفظي عنيف في البيت بشكل يومي مع أمّها , ثم دخلت نفق حزن معتم الظلمة , وأغلقت على نفسها باب غرفتها , وصارت شبه ميّتة , جسد هزيل ووجه شاحب , واشتاقت أمها لوقفتها فقط وحركاتها في البيت .
ليلة رمضان , سمعت سعيد خطيبها وحبيبها الأول , وقد عرفته من صوته , يتكلّم مع أمّها بصوت هامس , وضعت أذنها على الباب وسمعته يقول : أريد أن أراها وأسلّمها هديّة , خرجت له , وكم فرحت أمّها لخروجها , وقف مبتسما , ولم يتغيّر فيه شيء , وكأنّه ازداد وسامة وشبابا , سلّمها بكلتا يديه فانوسا , بثلاثة ألواح زجاجية ملوّنة , كل لوح بلون , ومصباح يتوهّج في الدّاخل , قال لها : تتحرّك الألواح تلقائيّا , ويتغيّر لون ضوء الفانوس بعد عدد معيّن من الأيّام , كل سنة وأنتم طيّبين .
علّقت الفانوس بفرح - ولم تدخل الفرحة قلبها منذ زمن - على مشربيّة غرفتها , كانت أول ليلة في رمضان , وكان ضوءه أزرقا , أحسّت بسكينة ورحمة , لون السّماء , ولون البحر , الصّفاء , والهدوء , ليالي حالمة , عاشتها مع الزّرقة , تكلّمت مع أمّها , وقفت معها في المطبخ , وحضّرت لهم " البسبوسة " , وسهرت أيضا وتسامرت مع جارتها وصديقتها , الّتي كانت آخر من يعودها , وكم يئست من خروجها اليها , وقرأت في مصحفها الصّغير على سريرها , وتابعت أيضا مسلسلا لطيفا , وضحكت .
في الليلة العاشرة تحوّل ضوء الفانوس الى الأبيض , وأحسّت ليلتها أنّها قد وُلدت من جديد , طهُرت تماما من ذنوبها وآثامها , وصار ثوبها ناصعا من الدّاخل , ودخلت الليالي بطهر , صلّت في الضّوء الأبيض كثيرا , وقضت ليالي بيضاء , بين الصّلاة والذّكر , وبكت .
في الليلة العشرين تحوّل ضوء الفانوس الى الأخضر , أحسّت أنّها قد عُتقت من النّار , ودخلت الجنّة , لاحظ كل من حولها نعيمها وسعادتها , وقد رجعت اليهم أفضل بكثير مما كانت عليه , في الليلة السّابعة والعشرين وقد كانت تجلس على سريرها تٌمسك مصحفا , بدأت ألواح الفانوس تدور , والأضواء الملوّنة تدور في الغرفة بما يشبه ألعاب الضّوء , أضواء مستديرة تدور , وكأنّ الملائكة قد حفّت المكان , وكأنّه عرس , وسمعت سعيد من خلف باب الغرفة يقول لأمّها : أنا أعمل الآن ولي مسكن خاص , نقرأ الفاتحة ونعقد ونقيم العرس بعد رمضان , وزغردت الأم بفرح .
بعد عام , وفي مثل هذه الليلة المباركة , أنجبت من سعيد بنت جميلة أسمَوها " سلام " مصداقا للآية الكريمة الّتي تتحدّث عن ليلة القدر " سلام هي حتى مطلع الفجر " , بعدها أنجبت " ألوان " و " فانوس " .