وفاء كلب
حدث هذا منذ مدة ليست بالطويلة فبينما كنت جالسا بمقهى الشارع الشرقي صبيحة ذاك اليوم المشمس و كالعادة قهوتي أمامي و دخان سيجارتي البيضاء يملأ المكان لمحت من بعيد طفلا لا يتجاوز العاشرة من العمر و معه كلبه الصغير يجريان في الضفة المقابلة من الطريق .. كان الأمر عاديا .. إلتفت إلى الوجوه التي تقاسمني المكان .. هي نفس الوجوه تتكرر يوميا و لكنني أحب مطالعتها لأنها كل يوم تحمل شكلا خاصا فهذا عمي إبراهيم الذي كان البارحة ساخطا على رجال البوليس لأنهم نزعوا منه رخصة السياقة و يلعن القوانين ها هو اليوم يهمس لعمي الحسين بأن هناك قانون جديد للقضاء على البناءات الفوضوية و ثغره باسم لأنه سيتحصل على منزل جديد ... بدوره شوقي إتخد مكانا منعزلا بآخر المقهى و ها هو يتصفح جريدة النصر باحثا في الإعلانات عن وظيفة شاغرة تناسب دبلومه و لكن كالعادة يبدو أنه لم يجد ضالته فقد قام بقلب الصفحة على الكلمات السهمية و المتقاطعة .. في هذه الأثناء مرت الحافلة الجامعية على الطريق العام الموازي للمقهى اشرأبت الأعناق كي تلمح الفتيات الجميلات .. و لكن ما هي إلا لحظة حتى غابت عن الأنظار لتعود الأعناق إلى سيرتها الأولى ... بقيت أقلب نظري هنا و هناك و أنظر إلى الطريق المقابل لعلني أنا أيضا أحظىبرؤية سيقان فتاة جميلة قد تمر بأي لحظة .. و بينما أنا كذلك لمحت موقفا رهيبا ففي وسط الطريق استقر ذاك الصبي و كلبهوكانت هناك سيارة قادمة نحوهما بسرعة رهيبة .. بقيت مذهولا أشاهد ما سيحدث ...و لكنني رأيت أن السيارة تتجه للكلب مباشرة و ذاك الصبي عوض أن يتنحى شمالا رمى بنفسه يمينا لينقذ كلبه من الموت المحقق .. و ما هي إلا لحظاتحتى استفقت على ضوضاء و صراخ من بالمقهى و جريت كما جرى الناس نحومكان الحادث و يا لهول ما رأيت .. فقد وقع رأس الفتى على حافة الرصيف و غطت الدماء ملامح وجهه .. بينما الناس راحوا يصرخون في وجه السائق و يطالبونه بوثائقه و هو مندهش و لا يدري ما يفعل أو ما يقول ..في نفس الوقت بقيت أنا أبحث عن الكلب و أتساءل يا ترى ماذا أصابه ؟؟؟و ما هي إلا دقائق معدودة حتى وصل رجال الشرطة و الحماية المدنية و رفعت جثة الفتى و أبعدت السيارة عن الطريق و عاد نظام السير كالعادة ..عدت إلى المقهى و الحزن يعتصر قلبي على الفتى المسكين و طلبت قهوة أخرى و جلست بنفس المكان أعيد دوران الأحداث بمخيلتي ...و مضت أيام عديدة على تلك الحادثة و نسيت الأمر تدريجيا.. و اليوم على غير عادتي فلم أتمكن من النوم مطلقا .. تقلبت في فراشي عدة مرات و لكن بدون جدوى .. فقررت النهوض و لبست ملابسي و خرجت قاصدا المقهىو كعادتي جلست إلى الطاولة الأولى و رحت أرقب المكان ..كان الطريق خاليا تماما من المارة و من السيارات فالكل نيام ... و قليل جدا ما تمر سيارة أو ألحظ طيف إنسان .. أخيرا جلب لي النادل قهوتي و سأتمكن من إحراق سيجارتي الأولى لي بهذا اليوم .. فجأة لمحت منظرا مؤثرا للغاية .. لا أدري ما انتابني حينها من مشاعرلقد رأيت ذلك الكلب و هو يمرغ جسده مكان الحادث و يضع أنفه على حافةالرصيف و يشم المكان الذي وقع رأس الفتى به .. و تبدو على ملامحه مظاهرالحزن و الكآبة .. لم أتمالك نفسي و أحسست بدمعة تخط على خدي طريقا لهاو لم أستفق إلا عندما أحسست بحرارة رهيبة تلفح أصبعي .. فرميت السيجارةالتي أصبحت رمادا .. و قلت في نفسي يا سبحان الله .. الآن فقط أدركت لما صفة الوفاء ترتبط بالكلب .. فعلا لا أوفى منه فما زال يذكر صاحبه و يزور مكان موته أطرقت قليلا .. ثم دعوت لذاك الصبي الذي ضحى بنفسه من أجل كلبه فنعم الوفاء و ما أروعها من صداقة .
انتهى
بقلم هشام