يوميات بدر ( قصص فكاهية ) :
1 )
وجوه متراقصة
د. مصطفى عطية جمعة
عيون الطلاب في الصف تطالعه من طرف خفي ، تتراقص الابتسامة خجلى على الوجوه ، تتابع العيون الأستاذ الذي انهمك في الكتابة على السبورة، تتسع الابتسامة ، يكتم البعض ضحكه ، الكل منشغل بوجه زميلهم "بدر" الذي مطّ شفتيه ، ولوى أنفه ، ورفع حاجبيه ، وتكشّرت ملامحه فبدا كالذئب المتوحش.
التفت الأستاذ - من كتابته السبورية - لطلابه فطالع انبساط الوجوه ، وانفراج الشفاه ، وكتم القهقهات .
- لماذا تضحكون يا أغبياء ؟!
قالها الأستاذ وهو ينظر في عيونهم الطافرة ضحكا ، فأجابوا بأصوات متداخلة ، تشي بالاحترام الواجب :
- لاشيء يا أستاذ.
وعادت شفاههم محافظة على انطباقها ، يظن الأستاذ أن هيئته سبب ، يفتش في ثيابه ؛ لاشيء ، ينظر فيما كتبه على السبورة ؛ لا شيء ، يعود لاستكمال كتابته ، فيما يزيد " بدر " من تمدد شفتيه ، ويخرج لسانه للصف ، طويلا ، متراقصا ، ثم يعيد إدخاله ، محافظا على لوحة التكشيرة في وجهه . ينفجر الطلاب ضاحكين ، وتعلو ضحكاتهم ، فيمسك الأستاذ عصاه ، وبعشوائية ينهال ضربا عليهم ، وحينما يصل لبدر ، يكون الجد مزينا وجهه ، يقف بدر ، ممتنعا عن الضرب ، صائحا :
- أستاذ ، لم أفعل شيئا ، لماذا تضربني ؟
- أنت تضحك معهم .
- والله ما ضحكت ، أقسم بالله ، واسألهم يا أستاذ .
تندفع أصوات رفاق بدر ، تنفي واقعة الضحك ، مقسمة بالأغلظ أيمانا ، فيما لا يزال الأستاذ يسب الملامح المتراقصة ، ويضرب الأيدي الممتدة قسرا ، وتطفر عينا بدر ببراءة وحزم ، والملامح تكتم ضحكها ، والأستاذ يجاهد لاستعادة زمام الحصة ، وجذب انتباه الوجوه ، وهيهات ، هيهات .
*******************
2 )
( الدوائر الحمراء )
يجلس بدر في مؤخرة الصف ، مرتكنا جانب النافذة . طرقات هادئة على باب الفصل ، انتفض الأستاذ من جلسته وإغفاءته ، ووقف مبعدا الكرسي ، ورفع عقيرته متظاهرا بالشرح ، فيما اشرأبت العيون إلى القادمينِ ، كان السيد مدير المدرسة ، في مصاحبة الموجه الفني .
الأستاذ مضطرب بين شرحه والتقليب في دفتره ، فيما احتل المدير والموجه كرسيين بجوار بدر . يعلم بدر أن معلمه لا يجيد إلا منحهم درجات كثيرة ، تُفرِح الطالب ، وتُسكِت ولي الأمر .
النظرات متبادلة بين المدير والموجه ، فالمعلم يسهب شرحا بما يخالف عنوان الدرس المدون على السبورة . يطلب الموجه دفاتر المادة فيسأل بدرا الذي يجاوره :
- أعطني دفترك يا بني .
بكلمات متدفقة ، وثقة زائدة :
- أستاذ ، لماذا أحضر دفترا ؟
- حتى تكتب شرح الأستاذ ، وتحل الواجبات .
- الكتاب موجود ، ونحن نفهم جيدا من أستاذنا .
وجها المدير والموجه يتزينان بالابتسامة :
- وأين ستحل الواجب ؟
- الواجب للطالب الغبي ، الذي لا يفهم الشرح ، وأنا فاهم جيدا .
همس الموجه :
- وما الدليل على فهمك الجيد ؟
يخرج بدر شهادته المزدانة بالدوائر الحمراء ، ويقول :
- هذه هي المادة الوحيدة التي أنجح فيها ، انظرا .
********************
3 )
( الأسد في يوم ماطر )
أشار الموجه للمعلم ، فارتكن المعلم جانبا موسعا ، وتقدم الموجه فوقف أمام السبورة ، وقال :
- أبنائي الطلاب ، دعونا نتحاور قليلا ، سأروي لكم حكاية ، وأريد منكم أن تفهموها وتذكرون ما تعلمتم منها .
انتبهت الأعين ، فيما شحب وجه المعلم ، واستولى الوجوم على ملامح المدير الذي قبع في آخر الصف ، منتظرا ما سيسفر عنه الموقف .
بصوت جهوري ، عميق النبرات ، مراعيا الفصحى والضبط اللغوي ، قال الموجه :
" اشتدت الأمطار ، وملأت الغابة ، ووجد الأسد أولاده يئنون جوعا ، فالمطر متتابع يمنعهم من الخروج ، فقالت زوجة الأسد ، لزوجها : هل سنظل جوعى؟ ألا تسعى لإحضار طعاما لأولادنا مثل كل يوم . فقال الأسد : المطر شديد . فأجابته الزوجة : والجوع أشد . فقال الأسد : حسنا ، سأذهب الآن ، وخرج بالفعل ، فاصطاد أرنبا ، وعاد ليطعم أولاده "
- والآن ، ما رأيكم يا أبنائي ، هل أعجبتكم القصة ؟
أومأت الرؤوس بالموافقة ، فقال الموجه :
- إذن ، من يشرح لي المستفاد من هذه القصة .
ظلت الأيدي قابعة على الطاولة ، والعيون جامدة ، توحي بالبلاهة . نظر الموجه للمعلم ، والمدير والطلاب ، وقال :
- القصة سهلة ، وسؤالي أسهل ، ماذا تعلمت من موقف الأسد مع أولاده ؟
ظلت الكلمات طائرة في فضاء الصف . نظر الموجه لبدر ، وقال :
- بدر ، أنت تفهم من أستاذك جيدا ، كما تقول ، أجب عن سؤالي .
تعلقت العيون جميعها ببدر ، الذي وقف بجسده القصير في آخر الصف ، وراحت عيناه تلمع ، والموجه يستحثه ، هتف بدر :
- القصة خطأ يا أستاذ .
علامة تعجب كبيرة حملتها الوجوه ، وعتاب من المدير والمعلم .
قال الموجه بغضب :
- القصة صحيحة ، ونطقي سليم ، يبدو أنك لم تفهمها .
أجاب بدر :
- هناك خطأ كبير يا أستاذ .
- وما هو ؟
- الأسد لا يحضر الطعام لأولاده ...
- نعم !
- اللبؤة زوجة الأسد هي التي تخرج وتحضر الفرائس والطعام ، والأسد يظل في عرينه لا يتحرك .
بهت الموجه ، فيما توقفت العيون ، وسرعان ما ابتسم المدير ، وقال :
- صحيح كلامك يا بني ، وهو مقرر في منهج العلوم .
* * *
صافح المدير بدرا ، فيما احتضنه المعلم ، وزعق الطلاب عاليا ، وعادوا يضحكون ، وهم يرون بدرا مكشرا عن أنيابه متلاعبا بلسانه .