روت كتب الأدب العربي أنْ قوماً من العرب يُقال لهم بنو أنف الناقة - و سبب ذلك أن أباهم عندما كان صغيراً جرّ رأس ناقة مذبوحة و عندما سُئل : ما هذا ؟ أجاب : أنف الناقة ! , فلقّب به . - و كانوا يكرهون هذا اللقب و يتحاشونه بين الناس , إلى أن جاء شاعر يُدعى الحطيئة و مدحهم بقصيدة مما قال فيها : قومٌ همُ الأنفُ و الأذنابُ غيرهمُ و منْ يُسوّي بأنفِ الناقة الذنبا ! , فصاروا بعد هذا البيت يفتخرون بذلك اللقب "بنو أنف الناقة" و يرفعون به أصواتهم بين الناس ! . بيت واحد من الشعر غيّر موقفهم مئة و ثمانين درجة في قضية حساسة و خطيرة عندهم و هي النسب , و إنّ القارئ لهذه القصة في زماننا يتبادر لذهنه للوهلة الأولى سذاجة أولئك القوم و خفة عقولهم و أنهم مجموعة من الحمقى ... فأي عقلاء أولئك الذين يغيّرون مواقفهم التي صمدوا عليها سنين طويلة في لحظة واحدة سُكبت فيها بضع كلمات في آذانهم ؟! , لكن لو قُدّر لنا أنْ نُبحر إلى ذلك العصر بوسيلة كآلة الزمن لكان لنا رأي مختلفٌ تماماً .
ففي ذلك العصر - قبل حوالي ألف و خمسمئة عام تقريباً - في المنطقة العربية كانت كل قبيلة مستقلة بذاتها و تُحاكي نموذج الدولة , فالقوة المُقدرة لأي قبيلة تُحسب من محصلة قوتها الخشنة - عدد الذكور القادرين على القتال و مهارتهم و أسلحتهم ...- بالإضافة إلى قوتها الناعمة -( القوة الناعمة مصطلح عرفه صاحبه جوزيف ناي بأنه القدرة على التأثير في الأهداف المطلوبة , و تغيير سلوك الآخرين عند الضرورة , و الحصول على ما تريد من خلال الإقناع و الجذب و ليس الإكراه) - , و في ذلك العصر كان الشاعر و الشعر يُمثل القوة الناعمة للقبيلة ! فكما لكل قبيلة فرسانها و سيوفهم فلديها شاعرها و شعره , الشعر في ذلك الزمان كان يساوي في زماننا كل وسائل التأثير على الآخرين من إذاعات و فضائيات و صحف و سينما و مسرح و مطبوعات و وسائل التواصل الاجتماعي ..., وكان الشاعر هو نُخبة القبيلة المُثقفة فهو الفنان و الأديب و المفكر و الإعلامي و الناشر...في آنٍ واحد .
إن ما تعرضَ له "بنو أنف الناقة" قبل ألف و خمسمئة عام من "سحق" عقولهم ب "القوة الناعمة" لا يختلف عمّا نعيشه اليوم فما نراه و نسمعه و نقرأه يؤثر بلا ريب في قرارتنا و بناء مواقفنا من قضايا معينة اجتماعية كانت أو سياسية أو اقتصادية ... , في عام 1922 نشر الكاتب و الإعلامي الأمريكي والتر ليبمان كتابه "الرأي العام" - و الذي كان ممهداً لنشوء ما بات يُسمى بعلم النفس الإعلامي - و رأى في هذا الكتاب أن أي مجتمع ينقسم بشكل رئيسي إلى أغلبية جاهلة لا وعي لها و ضالة مثل قطيع الغنم , و أقلية ذكية يكون لها فقط حق التخطيط و الإدارة في كل شيء ضمن دائرة الحاضر و المستقبل ! و على الفئة الأولى -القطيع- أن تسمع و تطيع الفئة الثانية - الأقلية الذكية !- , لكن لكي يكون هذا على الأقلية الذكية بوصفها النخبة أن تصيغ أفكار المجتمع و تقوم بنشرها , و بالطبع لكي يتسنى لها نشرها فعليها الوصول إلى المعلومات و وسائل الإعلام في المجتمع ..., إن القارئ سيتبادر إلى ذهنه واقع هذا الكلام في القضايا السياسية و تحيز وسائل الإعلام لطرف دون أخر فمن التحيز ل "إسرائيل" دون فلسطين في وسائل الإعلام الغربية المملوكة لشرذمة مؤدلجة صهيونياً أو تمجيد وسائل إعلام عربية لحكامٍ طغاةٍ على حساب شعوبهم ..., لكن يا ليت هذا يقف عند حدود السياسة ! , إن تغول تلك الأقلية يمتد إلى كل شيء يساهم في تشكيل العقلية سواء كان ذلك مباشراً أو غير مباشر بدءًا من أفلام الكرتون التي تُبث للأطفال و ليس انتهاءً بنشرات الأخبار للكبار ! , في جميع الأمور الثقافية و الدينية و الاقتصادية و السياسية و حتى العلمية ! , و لكي لا يذهب ذهنك أنني من المروجين لنظرية المؤامرة دعني أذكر بعض الدراسات العلمية المحضة , في دراسة لجامعة "ميشيغان" ذكرت أن الطفل من عمر 2-5 سنة يشاهد 32 ساعة أسبوعياً من أفلام الكرتون و الطفل من عمر 6-11 سنة يشاهد 28 ساعة أسبوعياً من أفلام الكرتون , و في دراسة لجامعة "كاليفورنيا" استمرت لحوالي أربعين سنة توصلت إلى أن تشكل شخصية الإنسان يكون في مرحلة مبكرة من الطفولة قبل العشر سنين , و إذا أضفنا إلى تلك الدراسات دراسة جامعة "ولاية أيوا" التي توصلت إلى أن أفلام الكرتون تجعل الأطفال أكثر ميلاً إلى العنف , و دراسات أخرى عن احتواء أفلام كرتون شهيرة على محتوى جنسي خفي بما في ذلك كرتون "ديزني" الشهيرة , الأمر الذي بررته شركة "ديزني" أنها مجرد مزحة من موظفيها الذين يشعرون بالملل ! , ضع هذه الدراسات جانباً و دعني أسألك هل شاهدت كرتون "توم و جيري" في طفولتك مثلي ؟ هل كنت مثلي تشجع الفأر اللطيف "جيري" ضد القط النزق "توم" ؟ حين كبرت قليلاً و قرأت حديث النبي -صلى الله عليه و سلم - عن القطط (إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوَّافين عليكم) و حديثه عن الفئران : (خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الحل والْحَرَمِ : الْفَأْرَةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْحُدَيَّا ، وَالْغُرَابُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) , و وددت لو أن صانع "توم و جيري" جعل القط في موضع الخير و الفأر في موضع الشر أم أن عقولنا أُريد لها من طفولتنا أن تُبرمج بعكس ما هو صواب ؟ , و هذه لم تكن صدمتي الأخيرة , فلعلك مثلي من هواة مشاهدة أفلام " ناشونال جيوغرافيك " الوثائقية الرائعة , صدمتي كانت عندما قرأت كتاب "المتلاعبون بالعقول" ل هربرت شيللر و كشف فيه دور مجلة " ناشونال جيوغرافيك" في التحيز لآراء سياسية معينة ضمن سرد وثائقي يبدو علمياً و بريئاً ! , فعلى سبيل المثال أثنت المجلة "العلمية" على دور الولايات المتحدة في فصل بنما عن كولومبيا ! ... , نحن بحاجة للتفكر بدلاً من مجرد السماع و المشاهدة و جعل ما نشاهده و نسمعه يتسرب إلى عقولنا في اللاوعي , أفلا يتفكرون بدلاً من أفلا يشاهدون و يسمعون ..., كم من قضية كانت عندنا كأنف الناقة و غيّرنا رأينا فيها لمجرد أن الإعلام أشار إلى ذنبها ؟ , لا بل كم من قضية لا ناقة لنا فيها و لا جمل جعلنا الإعلام نتابع ذنبها قبل أنفها ؟ ! .