من حكايات عمتي
حكاية للأطفال
الجزء الأول size]
الإبنة التي ضلت السبيل
بقلم : نزار ب. الزين*
[size=5]جلس شومان ملك مملكة الدراوشة ذات يوم على كرسي العرش و هو في حالة سيئة جدا من الإكتئاب و القلق ، و بعد لأي تمكن وزيره و كاتم أسراره من معرفة السبب ، فقد رأى جلالته فيما يراه النائم أن أحدا ما طعنه في ظهره غدرا ، و قد استمر يرى الحلم ذاته ثلاثة ليالٍ متواليات .
بعد إستئذان جلالته ، دعا الوزير جميع العرافين و المنجمين في المملكة إلى القصر لإستشارتهم بأمر هذا الكابوس المزعج .
منذ لحظة وصولهم ، عقدوا مؤتمرهم ، و أخذوا يتشاورون ، و كل يدلي بدلوه ، إلى أن اتفقت غالبيتهم على تفسير إرتضاه الجميع ، فكلفوا كبيرهم أن ينقل التفسير إلى جلالته :
- لدي التفسير يا صاحب الجلالة ، و لكنني أطلب الأمان
يجبه جلالته :
- أعطيناك الأمان ، قل ما عندك و لا تخف .
- سوف تحمل جلالة الملكة قريبا ، و سوف تنجب لك أنثى ، و لكن عندما تكبر سوف تضل السبيل .
قال العراف ذلك ثم استأذن بالإنصراف !
إنسحب جلالته من قاعة العرش فورا ، و إتجه إلى جناح الحرملك* في القصر ، ثم أرسل في طلب الملكة حيث شرح لها الموقف ، ثم أنذرها قائلا : << حالما يثبت حملك يجب أن تخبريني و إذا حان وقت ولادتك و أنجبت بنتا يجب ألا تتأخري عن إعلامي ، لأنني سوف أقتلها بيدي ، قبل أن تسبب لنا العار ، فسمعتنا و سمعة المملكة أهم من كل بنات الأرض ! >>
لم تفه جلالتها بكلمة واحدة ردا على جلالته ، و لكنها لم تقتنع إطلاقا بما قاله المنجمون و العرافون ، فكيف يمكن لإبنة ملك أن تضل السبيل ؟ و هي التي سوف تنشأ في القصر تحت إشراف أفضل المربيات و أقدر المعلمات ؟!
*****
عندما تأكدت الملكة أنها حامل إستدعت وصيفتها و كاتمة أسرارها ، و حدثتها عن نوايا جلالة الملك ، و أنها قررت ألا تفرط بحشاشة كبدها ، و أنها غير مقتنعة بتفسير العرافين و المنجمين ، و أمرتها أن تتفق مع أمهر البنائين لبناء قبو في طرف القصر بحيث يتم العمل ببنائه ليلاً دون أن ينتبه إليه أحد ، و أضافت أنها ستجزي العطاء لهم على أن يكتموا السر ، و أن أوخم العواقب ستحيق بهم ، إن تفوهوا ببنت شفة !
قامت الوصيفة بتفريغ عدة غرف من طرف القصر الشرقي المطل على الوادي و منعت الجواري و العبيد من الإقتراب منها ، و ابتدأ العمل بإنشاء القبو و تجهيزه بكل لوازم المعيشة ، دون أن ينتبه إليه أحد .
و في نفس الوقت كانت الوصيفة تراقب سيدات القصر الحوامل و جواريه ، فقد إتفقت مع الداية* على حل يرضي الملكة و يسعد الملك.
عندما أنجبت جلالتها إبنة حلوة ، نقلتها فورا إلى القبو ، حيث كانت المرضعة بإنتظارها ، بينما إستحوذت الوصيفة على غلام ذكر كانت إحدى الجواري قد ولدته ، بعد أن منحتها صرة من الليرات الذهبية الرنانة ، مقابل رضوخها للأمر الواقع و كتمان السر .
و هكذا أُبلغ جلالة الملك بأن الملكة أنجبت له غلاما ذكرا .
*****
أسموها زبرجد ، و توالت على تنشئتها أفضل المربيات و المعلمات ؛ و كأولاد الحكايات كبرت بسرعة ، حتى صارت صبية في الرابعة عشر ، رائعة الجمال ، متقدة الذكاء ، و لكنها ظلت لا تعلم شيئا عن العالم الخارجي .
و في الآونة الأخيرة بدأت تطرح الأسئلة على معلماتها : << قرأتُ في الكتب عن عالم مليء بالأشجار و الأنهار و الفراشات و الأطيار ، لِمَ لا أرى منها غير الرسوم ، لم لا يسمحون لي بالخروج لأرى الدنيا ؟ كل الأطفال لديهم آباء و أمهات ، فاين ابي و أمي ؟ كل الأطفال يلعبون مع بعضهم بعضا ، لِمَ أنا لا ألعب سوى مع ألعابي الجامدة ؟ >> و تحتار معلماتها بالإجابة على تساؤلاتها فكنَّ يؤثرن الصمت خشية أن تزل ألسنتهن بما لا يرضي جلالة الملكة .
و ذات يوم و بينما كانت جالسة على سريرها حزينة بائسة ، سمعت حركة غريبة في الجدار المجاور ، اقتربت منه أكثر ، وضعت أذنها ، فسمعت دقات رتيبة ، أخذ صوتها يزداد اقترابا ساعة بعد ساعة ؛ و على حين غرة برز لها رأس أرنب ؛ خافت منه بداية ، و لكنها تجرأت و اقتربت منه محاولة لمسه ففر .
كان الأرنب قد حفر نفقا ، إقتربت من الفتحة الصغيرة التي أحدثها ، وضعت عينها في الفتحة فظهر لها من الطرف الآخر نور ساطع << تلك هي الدنيا التي حجبوها عني! >> همست في سرها .
و منذ تلك اللحظة أخذت توسع كل ليلة نفق الأرنب بيديها شيئا فشيئا ، حتى إذا تعبت ، غطت الفتحة بخزانة ألعابها ، أما التراب الناجم عن الحفر فكانت تخبئه تحت سريرها .
*****
و عندما لاحظت أن بوسعها النفاذ من النفق ، جمعت بعض حاجياتها ، و انتظرت حتى إنبثاق الفجر ، ثم تسللت خارجة من النفق .
وجدت نفسها فوق منحدر مغطى بالأشجار و الشجيرات ، تعثرت مرارا قبل بلوغ سفحه ، ثم سارت على غير هدى ، تمتع بصرها بمناظر الطبيعة التي طالما قرأت عنها دون أن تتعرف عليها ، و هي تكاد تطير فرحا و سرورا .
فجأة يصدح عندليب قربها ، رفعت رأسها فوجدته في أعلى شجرة صنوبر ، خاطبته قائلة :
- أنت العندليب ؟ قرأت عنك في كتبي ، تعال لأشاهدك عن قرب ، فلطالما تمنيت أن أراك رؤيا العين .
أجابها العنليب :
- أنت من بني البشر ، و قد نبهتني أمي ألا أثق ببني البشر ، لأنهم إن أمسكوا بي ، سوف يأسرورنني و يضعونني في قفص بقية عمري ، كي يتسلوا بسماع صوتي ، أنا لا أطيق الأسر ، فهل تريدنني أفقد حريتي ؟
أجابته زبرجد :
- أنا عانيت من الأسر يا عندليب و لا يمكن أن أطلب الأسر لغيري .
يقترب منها و هو يقول مغردا :
- لقد صدقتك و أشفقت عليك ، و سأرافقك عن بعد ، و سأطربك بصوتي حيثما تشائين ، و سأحذرك من الأخطار ، و لكن إعذريني لن أفعل أكثر من ذلك .
شكرته ثم تابعت طريقها ...
بعد ساعة أو نحوها شاهدت غزالا ، فرحت برؤيته ثم قالت له :
-أنت الغزال ، أليس كذلك ؟
- نعم ، أنا الغزال و لكن من أنت ؟
- أنا زبرجد ، يقولون أنني إبنة الملك ، و لكنني لم أر والدي قط ، و لم أر حتى والدتي ، كنت أعيش في غرفة فيها كل أسباب الراحة ، و تعلمت القراءة و الحساب و العلوم من بطون الكتب ، و على أيدي ألطف المعلمات ، و لكنني لم أكن مرتاحة أبدا ، فقد كنت متشوقة على الدوام لمعرفة العالم خارج غرفتي .
- مسكينة أنت يا زبرجد ، كنت إذاً سجينة و أسيرة ، لقد أدمعت عيني ، و أشكر ربي أنني أعيش حرا طليقا .
- تعال إلى جانبي ، أرجوك يا غزال ، تعال لنلعب معا .
- أنا آسف يا زبرجد ، فقد أخبرتني أمي ألا أثق ببني البشر .
- يضعونك في قفص ، كما العندليب ؟
- بل يذبحونني إذا وقعت بأيديهم ، و يأكلون لحمي ، و يزينون جدرانهم بجلدي و قروني .
- أنا لا أقوى على قتل حشرة يا غزال ، و لا أملك سكينا لأذبحك ، و أحب كل المخلوقات التي قرأت عنها ، أرجوك إقترب مني ، لنلعب معاً .
- لقد صدقتك و أشفقت عليك ، سأرافقك عن بعد ، و سأحذرك من الأخطار ، و لكن إعذريني لن أفعل أكثر من ذلك .
شكرته ثم تابعت طريقها...
بعد ساعة أو تزيد شاهدت عنزة تقف منتصبة على شجيرة ، تأكل أوراقها بشراهة ، تسألها زبرجد :
- أنت العنزة زوجة التيس أليس كذلك ؟
تتراجع بعيدا عنها ثم تجيبها بصوت مرتعش :
- نعم أنا العنزة و زوجي التيس ، فمن أنت ؟
- أنا زبرجد ، يقولون أنني إبنة الملك ، و لكنني لم أر والدي قط ، و لم أر حتى والدتي ، كنت أعيش في غرفة فيها كل أسباب الراحة ، و تعلمت القراءة و الحساب و العلوم من بطون الكتب ، و على أيدي ألطف المعلمات ، و لكنني لم أكن مرتاحة أبدا ، فقد كنت متشوقة على الدوام لمعرفة العالم خارج غرفتي .
- مسكينة أنت يا زبرجد ، كنت إذاً سجينة و أسيرة ، لقد أدمعت عيني ، و أشكر ربي أنني أعيش حرة طليقة .
- تعالي يا عنزة لنلعب معا ، أرجوك !.
- أنا آسفة يا زبرجد ، فقد أخبرتني أمي ألا أثق ببني البشر .
- يذبحونك أم يضعونك في قفص ؟
- لا هذا و لا ذاك ، بل يضمونني إلى قطيع ، و يحرسونني بكلابهم الشرسة خشية الهروب ، ثم يسرقون لبن أطفالي ليتغذوا به .
- أنا لا أملك قطيعا ، و لا أحب اللبن الحليب ، فلا تخشي مني أي سوء ، ارجوك تعالي إلى قربي لنلعب معا .
- لقد صدقتك و أشفقت عليك ، و سأرافقك عن بعد ، و سأحذرك من الأخطار ، و لكن إعذريني لن أفعل أكثر من ذلك .
تشكرها زبرجد ثم تتابع طريقها ...
تشاهد حمار الوحش المخطط ، تفرح به ، تسأله :
- أنت الحمار الوحشي المخطط أليس كذلك ؟
يجيبها :
- نعم أنا الحمار الوحشي المخطط ، و أنت من تكونين ؟
- أنا زبرجد ، يقولون أنني إبنة الملك ، و لكنني لم أر والدي قط ، و لم أر حتى والدتي ، كنت أعيش في غرفة فيها كل أسباب الراحة ، و تعلمت القراءة و الحساب و العلوم من بطون الكتب ، و على أيدي ألطف المعلمات ، و لكنني لم أكن مرتاحة أبدا ، فقد كنت متشوقة على الدوام لمعرفة العالم خارج غرفتي .
- مسكينة أنت يا زبرجد ، كنت إذاً سجينة و أسيرة ، لقد أدمعت عيني ، و أشكر ربي أنني أعيش حراً طليقا .
- إذاً ، تعال لنلعب معا ، أرجوك !
- أنا آسف يا زبرجد ، فقد أخبرتني أمي ألا أثق ببني البشر .
- يذبحونك أم يضعونك في قفص ، ليتسلوا بشدوك، أم يسرقون لبنك ؟
- أنا لا أملك صوتا كالعندليب بل إن صوتي قبيح ، و لا لحما قابلا للأكل و لا لبنا يستسيغونه ، إنما يضعونني في قفص كبير ، في حدائق حيواناتهم ، ليسلوا أطفلهم بالفرجة عليّ . و لكنني سأرافقك عن بعد و أحذرك من الأخطار .
في المساء ، أحست زبرجد بالجوع و شعرت بالبرد ، فأخذت تبكي جزعة ، إقتربت منها العنزة و دعتها لتاول اللبن من ثديها مؤكدة لها أنها ستستسيغه لأنه طازج ، و اقترب منها الحمار الوحشي فأخذ ينفخ عليها من زفيره الحار ، و التصق بها الغزال يمنحها الدفء من جلده .
- لكم أحبكم يا اصدقائي !
قالت لهم ذلك ثم إستسلمت للنوم .
*****
في الصباح الباكر ، إقترب منها العندليب ، حط فوق كتفها ، ثم قال لها محذرا :
- جميع من في القصر يقتفون أثرك و يريدون إعادتك إليه !
أجابته مرتاعة :
- و لكنني لا أرغب بالعودة إلى القصر ، و لا إلى الأسر ، و لا إلى العيش بين أربعة جدران ، لقد عرفت طعم الحرية و لن أرضى عنها بديلا ، أرجوكم يا أحبتي أغيثوني !
يدعوها حمار الوحش أن تركب فوق ظهره ثم يجري بها بعيدا بعيدا ..يحرسهما كل من الغزال و العنزة .
في الطريق يبلغها العندليب ، الذي لا زال واقفا فوق كتفها ، بما سمعه حول قصتها ، عن حلم ابيها الملك ، و عن تفسير المنجمين لحلمه ، و عن إخفائها في القبو طيلة حياتها خشية أن يقتلها والدها الملك ، ثم عن إكتشاف أمر فرارها ، مما اضطر أمها الملكة لأن تخبر والدها الملك بحقيقة ما جرى ، فطلقها لفوره ، و حوَّل وصيفتها إلى المطبخ تقشر البصل و الثوم ، ثم أمر بإرجاعك يا زبرجد إلى القصر مهما كلف الأمر ، و هو عازم على قتلك لأن المنجمين قالوا له أنكِ سوف تضلين السبيل .
علق الحمار الوحشي ضاحكا :
- ألا ما أغبى هؤلاء الناس حتى لو كانوا ملوكا ، لأنهم يصدقون المنجمين و لا يحتكمون للعقل ؛ ضل السبيل تعني أضاع الطريق ؛ فهل كل من أضاع طريقه يرتكب معصية ؟!
تجيبه زبرجد :
- أنا لا أعرف أبي الملك ، و لا أمي الملكة ، لم أرضع من لبنها ، و لم أشعر بحنانها أو دفء أحضانها ، فأنا لا أنتمي إليهما ، أنا لا أنتمي إلى القصر ، أنا لا أحب القصر و لا أحب الأسر ، لقد نلت حريتي و سأحتفظ بها ، أما أنت يا أمي العنزة فقد أسقيتيني من لبنك و أنتم يا إخوتي الحمار و الغزال و العندليب ، فقد منحتموني الحماية و الدفء ، و سأنطلق معكم يا أهلي الأحرار بعيدا عن كل قصور الدنيا .
( يتبع / الجزء الثاني )
----------------------------
*الداية : القابلة
* الحرملك : جناح الحريم
*توتة توتة خلصت الحدوته : إنتهت الحكاية
----------------------------
*نزار بهاء الدين الزين
مغترب سوري
عضو إتحاد كتاب الأنترنيت العرب