محاولة انتحار فاشلة
جلس القرفصاء على فراش بسيط، جال بعينيه في المكان ،أحس بالنقص والدونية والفشل الذريع ،.والدته غائبة كعادتها دائما تبحث عن لقمة عيش خارج أسوار الحي وأحيانا خارج مدينة سيدي بنور .،تكنس،تطبخ في الأعراس والمناسبات ،تغسل الملابس والأواني ، تجفف...أحيانا ببيت أستاذ وأحيانا ببيت قاض وأحيانا أخرى ببيت طبيب أو مهندس...المهم أن تعود في آخر النهار بما يسد الرمق ويلبي طلبات البيت الكبيرة .ويرضي الشاب الذي اقترب من العشرينيات ،أما أختاه فكلتاهما انقطعتا عن الدراسة ،الأولى تشتغل كحاضنة أطفال بمبلغ زهيد بإحدى المدارس الخاصة التي تجني الآلاف .بل الملايين شهريا .أما الثانية فتعمل في معمل سري للخياطة بحي السعادة وكثيرا ما تعود متأخرة جدا إلى البيت مما يشعل الألسن والحناجر بهذا الحي الشعبي .لكن ذلك لايشكل له أدنى مشكلة فهو يثق بأختيه اللتين تجاهدان لأجل ارضائه بكل الوسائل، ثم هو متأكد أنهن لو أردن بيع أجسادهن ما بحثن عن عمل متعب، لكنه شريف مادام يحفظ ماء الوجه. كل هذا فقط لأجل اسعاده .لكنه غير سعيد وهو الآن بين هذه الجدران وحيد ،يائس ،حزين، ويحس بأنه فاشل ،الرياح تعوي قرب بيته ،فاشل ،وبائع السمك، يصرخ أمام دربه ،فاشل، وقطرات المطر فوق سقف جاره تصرخ فاشل ،...أغلق أذنيه وانكمش على نفسه ثم رفع رأسه كالمصدوم وهو يتصبب عرقا ،إنه الوقت المناسب لإخراج فكرة راودته إلى الوجود...الانتحار...؟ نعم إنه الحل الوحيد .بدا له الموت أسهل الطرق لتحقيق الذات والانبعاث من رماد العار ،عار الفشل والانكسار ،لكن كيف ؟ فكر في كل الوسائل ،السقوط من أعلى ،قطع الوريد، الإحتراق بالبنزين حتى الموت ،...نعم إنها الفكرة التي استوقفته، الإحتراق حتى الموت ..ابتسم وهو يتخيل السيناريو ،انبهر وهو يتخيل النهاية الدرامية ،نهاية كل شيء ، نهاية المعاناة والإحساس بالإحباط، نهاية الصدمات ونهاية النهاية ...أخيرا سيحس بالإهتمام وتأتي سيارات الإسعاف وأصحاب البذلة العسكرية والشرطة ..إنها اللحظة التي ستجعله يحس بالإنبهار ،تمنى لو كان قادرا على المتابعة لكنه سيكون مجرد كتلة متفحمة ،لكن لايهم سيحس بالفخر والنجاح خاصة أنه سيكون محط اهتمام الجميع ،وسوف تتصدر بطولته أخبار المدينة ،سيقرؤها الجميع ،كل أصدقائه بالمدرسة سيتبادلون صوره وأخباره عبر هواتفهم الذكية .ستدمع عيون أستاذة المعلوميات. تلك المتعجرفة الجميلة التي طالما احتقرته لضعف مستواه في المادة التي تدرسها .أخيرا سيعرف مدير الثانوية أن ذلك الشاب الذي كان يزدريه ويلومه كلما رآه بسبب أو بغيره، أن له إحساس وأنه بطل في النهاية . انطلق مسرعا نحو محطة البنزين ،رمقه البائع بنظرة شك وفضول فاستدرك بمكر أنه ميكانيكي يحتاجه لتشغيل سيارة متوقفة في الشارع المقابل .عاد الى المنزل تخيل النار تشتعل فيحضر الجيران ويطفؤون النار بسرعة وقد يحترق ولا يموت .إنه السيناريو الذي لم يكن يتوقعه، يريد نهاية حاسمة .فكر في حل آخر للتخلص من روحه في أسرع وقت خطرت له فكرة .إنه السم ،سم الفئران قفز من مكانه مسرعا وفي أقل من عشر دقائق عاد وبين يديه علبة بها حبوب لقتل الفئران .لكن أفكار الفشل مازالت تراوده لكن بطعم آخر هذه المرة، فشل الانتحار .تخيل أنه يسقط مغشيا عليه من تأثير السم ولا يموت ثم يأخذونه الى الجديدة ،تغسل معدته ثم يعود...أحس بالإحباط كالعادة أفكاره تبعث له تصورات الفشل حتى في محاولاته للموت .بعد أن حرمته من التفاؤل بالحياة .مشى ببطء في الغرفة وهو يفكر في حل أسرع للرحيل ،وقع بصره على حبل قرب الجدار .أمسك به وبدون تردد علقه بأعلى السقف ثم لفه بسرعة نحو عنقه بعد أن صعد فوق كرسي .لكن فكرة ما أوقفت حماسه ،سيقوم بجولة في أرجاء المدينة ليودع دروبها وحجارتها ومحلات بيع الحلوى بها وكل الأماكن التي تبعث فيه شيئا من سعادة ومرح الطفولة . انطلق عبر طريق الخميس ثم مر قرب السوق المغطاة "المارشي" وبعدها اتجه نحو مكان توقف العربات المجرورة، رمى نفسه فوق احداها والمتجهة نحو سوق بيع المتلاشيات "الجوطية" مباشرة بعد دخولها الى الشارع المؤدي الى مراكش قفز منها واتجه نحو حي "بام " ظل يطوف بين حاناته ،يسأل عن أشياء دون رغبة في الشراء .فجأة أمسكت بسرواله طفلة ممسكة بدمية صغيرة : ــ عمي ،عمي، اشتري لي هذه اللعبة.. نظر الى عينيها الجميلتين اللتين تختصران جمال الدنيا بأسرها ، ابتسمت في وجهه، فتسارعت دقات قلبه وانقشع الضباب من أعلى عينيه ، رد لها الابتسامة وهو يجثو على ركبتيه أمامها، فتش في جيوبه بجنون أخرج مالديه من نقود دفعها لصاحب اللعبة كلها . ــ هل أعجبتك ، هل هي جميلة ،خذيها لقد دفعت ثمنها هي لك...أين أمك..؟ رفع رأسه حيث أشارت ، فإذا بأمها تراقب المشهد كاملا .صدم مما رأى إنها أستاذته نفسها التي طالما حسسته بالفشل ، طأطأ رأسه وحاول الإنصراف فإذا بيد ناعمة تلامس كتفه ،تهتف باسمه ، توقف وهو يسمع صوتها بنبرة مختلفة تماما عن نبرتها في قاعة الدرس. ــ شكرا على اللعبة ، أنت شاب لطيف ورائع وذكي، فقط عليك أن تثق بنفسك. التفت نحوها ،امتلأت عيناه دموعا ،ثم صارت بحرا جارفا ،هاجت كل مشاعره المكبوثة ، دون أن تتمالك نفسها اغرورقت عيناها دموعا هي أيضا ثم ما لبتت أن سالت على خذيها أنهارا ،كان يرتجف من شدة التأثر ويشهق بكاء لم تكن تتوقع أنه ستكون لكلماتها كل هذا الوقع على نفسه.ضمته ضمة أم حنون ،حتى هدأ ثم سكن ،لأول مرة يشم طعم الأرض ويحس بحلاوة الحياة ،أحس بأنه لم يكن في حاجة الى مال فهو يبذله ويعطيه ،وأنه لم يكن في حاجة الى دار لأن كل المدينة داره ،أحس أنه في حاجة الى كلمة طيبة وحضن دافئ وعناق صادق